Sunday 20/11/2011/2011 Issue 14297

 14297 الأحد 24 ذو الحجة 1432 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

      

كنت قد تخرّجت للتو من الثانوية والتحقت بالجامعة، شجّعني أستاذي هاشم عبده هاشم وكان محاضراً بقسم المكتبات على الالتحاق بجريدة البلاد التي كان يدير تحريرها.

كانت من أولى مهامي خارج جدة تغطية حفل افتتاح الملك خالد لمشروع توصيل مياه التحلية لمدينة الطائف عام 1979م.. وصادف ذلك زيارة وزير الدفاع الفرنسي ولقائه بالأمير سلطان في الطائف.

تابعت الزيارة وحصلت على تصريحات هامة من الأمير في مواقف غير مريحة أو مناسبة له، أولها أثناء تناوله الطعام بحفل تكريم الوزير الضيف، وآخرها وهو يسير على البساط الأحمر عائداً بعد وداعه للوزير الفرنسي في مطار الحوية.. لكنه أبداً لم يشعرني بضيقه، بل كان ترحيبه سبباً لعدم تدخل أحد من مرافقيه.

كنت أشهر مسجلي الصحفي أمامه في كل مرة فيبتسم ويجيب على الفور، مهما كانت حساسية السؤال. وأذكر أنني سألته عما أشيع عن مشروع لإقامة قاعدة عسكرية سوفيتية في عدن، وعن عدم استعادة المملكة لجزيرتي تيران وصنافير المعارتين لمصر قبل حرب 67 واحتلتهما إسرائيل ثم أعادتهما لمصر بعد اتفاقية كامب دايفيد.. إضافة إلى أسئلة سياسية وعسكرية أخرى.

اقتربت منه لأسأله مرة ثالثة في حفل افتتاح التحلية، فضحك وهو يقول: أنت سألت كثيراً اليوم! قلت هذه المرة عن المشروع طال عمرك.. فابتسم بحنو وأجاب، ثم أعطاني رقم مكتبه الخاص فيما لو احتجت لأي استيضاح.

عدت إلى مكتبي لأكتشف (يا للهول) أنّ التسجيل كان ضعيفاً بالكاد يُسمع. كتبت الإجابات من الذاكرة ولحظت أنّ بعضها كانت حساسة بشكل ربما يحتاج إلى أن يراجعه. اتصلت على الرقم الخاص وشرحت لمن رد عليّ الموقف.

عاد إلي الرجل بعد وقت قصير وقال: الأمير يقول أملي عليّ ما كتبت. فعلت وانتظرت ساعات أخرى لم تطل ليتصل بي شخص آخر من المكتب لم يقدم نفسه ولكن بدا لي من الصوت أنه الأمير0 نفسه!! وأملى عليّ الإجابات المعدّلة وشكرني لعرضها قبل النشر.

طرت فرحاً لمدير التحرير هاشم عبده هاشم، فأحالني لرئيس التحرير الشيخ عبد المجيد شبكشي - رحمه الله -.

قدمت له نص المقابلة مع الصور التي كانت في ثلاثة مواقع مختلفة أجملها على البساط الأحمر بين حرس التشريفات في مطار الحوية بخلفية طائرة وزير الدفاع الفرنسي.. وأغربها وهو يتناول الطعام والصحفي المزعج يقاطعه بأسئلته.

استغرب الأستاذ عبد المجيد شبكشي أسئلتي وهالته صراحة وقوة الإجابات فطلب التسجيل.. ولما لم يتبيّن الصوت تشكّك وتخوّف.. كعادته في الحرص والتثبُّت، فقد كان صحفياً بخلفية عسكرية كمدير سابق لشرطة جدة. رفض أبو أسامة النشر بدون إحضار تأكيد من مكتب الأمير.. حاولت إقناعه ولكنني قدّرت موقفه.

كان الوقت ليلاً ولم أشأ الانتظار حتى الصباح فاتصلت على الرقم الخاص وشرحت الموقف.

بعد أقل من نصف ساعة فوجئت بالأستاذ الشبكشي يأتي بنفسه إلى مكتب الأستاذ هاشم حيث كنت باجتماع، ليعلن أمام الجميع بحماس غير معتاد من الشيخ الجليل: الأمير اتصل بي من سيارته وأبلغني شخصياً بأن أنشر مقابلتك كما هي.

اقترحت على سموه عرضها عليه فقال لا داعي.. انشروها كما هي. مبروك.. أعطها لأبي أيمن (هاشم عبده هاشم الذي عيّن وقتها نائباً لرئيس التحرير). وفي اليوم التالي نشرت المقابلة ثمانية عمود على الصفحة الأولى.

رافقت الأمير سلطان بعدها في مناسبات رسمية، ونشرت له العديد من التصريحات الخاصة. وأتيح لي خلال تلك الرحلات والمناسبات التعرُّف على شخصيته الفذّة عن قرب. استمعت له في منتصف الثمانينات الميلادية (وكنت مسؤولاً عن تحرير الشرق الأوسط في جدة) وهو يروي للقادة والضباط بقاعدة خميس مشيط، بحضور أمير عسير وقتها خالد الفيصل، ذكرياته عن اللبنات الأولى لبناء صروح وزارة الدفاع والطيران ومواقف مع الملك فيصل خلال اعتداءات الطيران المصري على جيزان ونجران والدروس المستفادة، بشكل أشعرنا جميعاً بالنعمة التي أكرمنا بها الله وأوصلتنا إلى ما بلغناه من تطوُّر.

وتابعت أبا خالد وهو يراجع خطط وتصاميم المشاريع في القواعد العسكرية أثناء جولاته التفقدية بشكل دقيق، فيسأل لماذا تأخر العمل في مخبأ طائرات مثلاً عن موعده المحدد وكيف تم تعديل نظام الاتصالات اللاسلكية والبرامج الجديدة المستخدمة.. ويناقش مشكلة الصيانة والنظافة في منطقة محظورة، مؤكداً على أهمية سعودة الوظائف حتى الدنيا منها في هذه المواقع.

وأذكر أنّ ضابطاً حكي لي بعد إحدى هذه الجولات أنّ الأمير يتابع خطوات كل مشروع منذ ولادة فكرته ثم يلاحقنا بالأسئلة والتدقيق والمراقبة. ولذلك لا نلتزم معه بموعد أو تعديل إلاّ ونطبقه بحذافيره قبل أوانه، خشية من حسابه لنا.. لأنه ما شاء الله لا ينسى أدق التفاصيل.

استمعت إليه يشرح لنا بسعادة وفخر نظام الربط والسيطرة الإليكتروني والراداري بين كافة أفرع القوات المسلحة وأجهزة الأمن المختلفة بأسلوب سهل ممتنع. فكان يقول مثلاً سيسمح النظام بربط قائد الطائرة المقاتلة أو الهليكوبتر بسيارة الشرطة وغرفة عمليات المرور وضابط في الميدان في مدن وقرى بمناطق متباعدة، من خلال غرف عمليات مركزية تدير حياً على الهواء أي نشاط أو رصد أمني وعسكري.

تذكّرت هذا الشرح فيما بعد أثناء حرب تحرير الكويت في 1990-1991م، والدور الذي لعبته هذه الأنظمة في إدارة العمليات المشتركة والمعقّدة لقوات التحالف من عشرات الدول من مركز عمليات موحّد في الرياض أشرف عليه الفريق خالد بن سلطان (نائب وزير الدفاع)، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات في حــرب تحرير الـكويت، كمـا جاء في مذكراته (مقاتل من الصحراء).

وشاهدت الأمير خلال زيارته التفقدية لمطار الملك عبد العزيز قبل افتتاح الملك خالد له 1981م (وكنت مسؤولاً عن تحرير جريدة الرياض بالغربية)، وكيف كان يراجع خرائطه ويعلق عليها ويناقشها، ثم يشرح لنا فكرة التصميم ومراحله وأهدافه.

وأذكر من مواقفه الإنسانية موقفاً طريفاً خلال هذه الزيارة، فقد كان معنا صحفي مبتدئ وكان متهيباً من طرح سؤال على الأمير فشجّعته.

وعندما شغّل مسجله قبل أن يطرح السؤال أخطأ فضغط على زر التشغيل لا التسجيل وكان الشريط الذي وضعه لأغانٍ شعبية والصوت عالٍ.. وزاد من قوّته الصدى في صالة المطار الخالية وقتها. ارتبك الزميل وتلعثم وأطفأ الجهاز ولم يجرؤ على تشغيله مرة أخرى، ولعلّه نسي السؤال أصلاً! نظر الأمير إليه بعيني صقر وقرأ حالته فتبسّم ابتسامة أبوية مشعّة وقال له مشجعاً: تفضل يا بني.. ما هو السؤال؟

زميل آخر من مكة كان يعاني من لثغة تحوّل الراء عنده إلى ياء.. سأل الأمير سؤالاً أذكر تقريباً أنه كان: سمو الأمير.. طال عمرك هل تفكرون في إنشاء مطار في مكة المكرمة بدلاً من أن يضطر الركاب والمسافرون القادمون إلى الحرم والمشاعر إلى المرور بمطار جدة؟ ولكم أن تتصوّروا كيف بدا السؤال مع كثرة الراءات فيه.

تماسك الأمير وبدا وكأنه يكتم ضحكته مكتفياً بابتسامة عريضة مراعاة لمشاعر الزميل وأجابه بعدم وجود تفكير في هذا الاتجاه، فمطار جدة يغطي الاحتياج.

وأذكر أنه بعد انتهاء المقرئ من تلاوة آيات من الذِّكر الحكيم في مناسبة زيارته للقاعدة الجوية بجدة عام 1980 أو1981م، أنّ الأمير الذي كان شديد الإنصات ناقش مع الحضور طريقة التلاوة وذكر تفاصيل تتعلّق بأحكام التجويد كالغنة أو الإدغام في آية كان يتلوها أبو خالد كما قرأها المقرئ ثم يعلق على الأداء.

أميرنا الحبيب كان سريع التجاوب، وكم أسعد أسرتي عندما رفعنا إليه قبل عامين بطلب علاج الخال عمر من المرض الخبيث، فوجّه خلال أيام بعلاجه على حساب سموه في مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة. كما أذكر أنني أرسلت له برقية أطلب منه في بداية عملي بمجلة المجلة العام 1984م موعداً لمقابلة صحفية، فجاءني التجاوب سريعاً بشكل أدهش وأسعد الناشرين السيدين هشام ومحمد علي حافظ، ورئيس التحرير وقتها الأستاذ عماد الدين أديب.. فلم يتصوّروا أن تقبل أحد أبرز الشخصيات العربية، كما عبّر الأستاذ عماد، بلقاء حصري مع صحفي في بداية طريقه بهذه السهولة.

لكنني بقدر سعادتي لم أفاجأ لا في تلك المناسبة ولا في غيرها.. فقد عوّدني سلطان بن عبد العزيز الأب والإنسان منذ بداية مسيرتي على دعمه وحنانه وتجاوبه.. رحم الله أبا خالد كم سأفتقده.

 

ذكريات ومواقف ثلاثين عاماً مع الأمير سلطان
خالد محمد باطرفي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة