Tuesday 22/11/2011/2011 Issue 14299

 14299 الثلاثاء 26 ذو الحجة 1432 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

يقال «لا همّ إلا همّ العرس ولا وجع إلا وجع الضرس»، فكل ضرس في الفك مغروس في غابة من الأعصاب القريبة من الرأس التي تفقد الإنسان أعصابه إذا ما قررت أن تلتهب. وفي السابق كان الفرد يمر متلثما، وعيناه ترمي بشرر من قلة النوم، لا يكلم أحدا، و»نفسه في رأس خشمه» وعندما تسأل عنه يقال لك مضروس.

ألم الضرس أيضا لا يشل حركة العقل فقط بل يشل حركة الفم أيضا، ويجعل الفرد يضرب عن الطعام مرغما.

ولكل دولة طريقتها التقليدية للتعامل مع ألم الضرس، في الهند يتم خلعه بكلاب كما يخلع المسمار من الخشبة، في أمريكا اللاتينية يربط بصخرة ضخمة ثم يلقى بها في حفرة، وقد يسقط الفرد ذاته في الحفرة إذا ما رفض الضرس الرحيل. وبعضهم يربطه في باب ثم يغلقه فجأة، وقد يكون لذلك آثار جانبية إذا ما خبط الرأس الباب. وقد يربط الضرس بحيوان كبير مثل الفيل أو الحصان ويضرب بالسوط لينطلق ساحبا معه الضرس المؤذي. وبحكم علاقاتنا التاريخية والتجارية مع الهند، فقد كنا نخلع الضرس على طريقتهم، بكلاب قوي للمسامير الكبيرة، بعد ما تُوسَّع اللثة بطرف المحش، ثم يحشى الضرس بملح ورماد كمضاد حيوي، ليودع المريض الضرس بالسهر كالمقروص. حتى في طب الأسنان ذاته كانت أدوات الطب إلى عهد قريب أشبه بأدوات نجارة منها أدوات استطباب.

ولو شاهدنا الصور القديمة لبعض مواطني المملكة للفت نظرنا أشكال الأسنان المختلفة والمتنافرة، وكذلك فتحات التهوية من مختلف المقاسات التي خلفتها الأسنان المختفية من مقدم الفم. أما من تجاوز الأربعين فقد لا تجد في فيه إلا سنا أو سنين يردفان شفته العليا مثل عمدان الخيمة، أو لا تجد له أسنان ألبتة ويقال عنه «فلان يدق له الماء». فقد كان الضرس ينظر له على أنه ابتلاء قادم لا محالة، ولذلك فليذهب غير مأسوف عليه.

لم نكن نعرف في السابق وحتى وقت قريب من رعاية للأسنان سوى خلعها ولم تكن لدينا رعاية للأسنان سوى السواك الذي أمر به الرسول الكريم، ولم يكن متوفرا إلا للمشائخ والمحظيين فقط. وقبل خمسين عاما بالضبط أحضر أحد الأقارب رحمة الله عليه، فرشة ومعجون أسنان معه من أرامكو حيث كان يعمل لوقت كاف يتعلم فيه الاعتناء بأسنانه، وعندما خرج إلى جانب البئر ليفرش أسنانه تكأكأ القوم عليه القوم من المعزومين على العرس يتدافعون لمراقبة هذا الموقف الغريب، فما كان من الرجل المتحضر إلا أن نهرهم متسائلاً: ما تريدون؟ فأجابوا بصوت واحد: نريد أن نكسب الصنعة يا عم!

وفي عام 1868 وجه العالم الأمريكي وليم مورتن الضربة القاضية لألم الضرس وجعل عملية الانتقام من الضرس أسهل من أن نحس بها، فيتم خلعه بدون أي ألم فتزايد مع ذلك خلع الأسنان لأتفه الأسباب، وفقد الضرس المرعب الكثير من احترامه. ولكن التقدم في علم طب الأسنان روض الضروس، وقلب المعادلة رأس على عقب، وجعل الضرس صديقا للبيئة وللإنسان، فأصبح حرص الإنسان هو الإبقاء على الضرس لا خلعه، وبدأ مع ذلك التفنن في اختراع الأدوات التي جعلت هدفها الأول الحفاظ على الأسنان، فلم تعد ترى أفواه مكشرة، أو النواجذ خارجة عن إطار الفم، فانتهى بذلك ألم الضرس ليشتد تعويضا لذلك هم العرس.

اليوم أصبحنا نخلع الأسنان المتأخرة في السقوط، ونسحب العصب من السن أو الضرس مثل الشعرة من العجين، لنبقيه جسدا بلا روح لا يستطيع حتى إيذاء نفسه، واستطعنا تقويمه عندما يكون معوجا، أو نرممه إذا كسرته حصاة اختفت على شكل حبة فستق أو فول، أو إذا ما كان صاحبه يمارس لعبه طاش ما طاش بفتح غراش المشروبات الغازية بأسنانه. أما خلعه فعملية لا تستحق حتى التفكير فيها، بشرط أن تغمض عينيك ولا ترى الأبرة الطويلة التي سيغرسها الدكتور في فكك.

في طب الأسنان ولله الحمد، كما في مجالات الطب الأخرى، لمن يتسنَّ بالطبع له الوصول بيسر لهذا العلاج، وصلت مملكتنا إلى مراتب عالية جدا وأصبح لدينا مراكز متميزة، وأهم من ذلك أطباء متميزون في هذا المجال. وقد دعمت الدولة هذه المجالات دعما سخيا لا يعرف الحدود، حتى أصبح الطبيب السعودي مطلب للجميع.

وُيلحظ هذا التميز بوجه خاص في كلية طب الأسنان في جامعة الملك سعود، وهذه ليست مجاملة لأنها كلمة حق. فالكلية، التي تعد اليوم المستشفى الأكبر في الرياض لعلاج الأسنان تعالج السعودي والمقيم دونما تفرقة وفق أحدث أساليب العلاج. وهنا مشروع طموح في الجامعة لافتتاح مجمع عيادات جديد وفق أفضل التقنيات. وأثبت أطباء الأسنان السعوديون علو كعبهم في هذا المجال. وبعض هؤلاء الأطباء أنشأ مراكز خاصة بهم تقدم خدمات عالية الجودة أيضا. فيمكن القول إن جامعة الملك سعود كانت ولا تزال رائدة في هذا المجال.

وقد كانت لي ولأولادي تجارب ممتازة في الكلية رغم صعوبة الحصول على المواعيد أحيانا لتزايد أعداد المراجعين لهذه الكلية. ولا بد في الحقيقة أن أشكر دكاترة مثل سليمان الهدلق، وطارق العبد الجبار، وعبدالله الإدريسي، وفهد الصويلح، ومحمد النزهان، رتبتهم أبجديا، شكرا خاصا لأن العلاج معهم يعد ثقافة في طريقة تطبيب الأسنان. وهم من أتيحت لي الفرصة لمعرفتهم، لأنني متأكد أنه يوجد غيرهم من المتميزين ممن لا أعرفهم. غير أن هؤلاء حقيقة يشرّفون مهنتهم، وقد علموني شخصياً احترام السن وكأنه جوهرة في الفم، وهم يدربون أطقم أطباء جدد، والجامعة تسعى جاهدة لتوفير أحدث التقنيات لهم.

المملكة اليوم وفي جامعة مثل جامعة الملك سعود تستطيع أن تجذب الاستثمارات وتحقق الريادة في هذا المجال سواء في مجال التدريب أو التصنيع لأن الأطباء المتميزين يستطيعون إرشاد المستثمرين لتوفير مثل هذه التقنيات. كما ونهيب برجال الأعمال بدعم الجامعة في هذا المجال، فإنشاء عيادة طبية لا يقلل أجرا وثوابا عن بناء مسجد أو وقف من الأوقاف في المجالات الأخرى، فهنا نفيد البلاد والعباد ونسهم في ضمان حصول المواطنين والوافدين على ما يحتاجونه من رعاية طبية.

مرة أخرى أشعر بالفخر كلما تطببت لدى طبيب سعودي ممن يحترمون مهنتهم ومرضاهم وهم كُثر، مع أنه وللأسف يوجد قلة ممن قد يسيئون لمهنتهم لأسباب لا مجال لذكرها. لكن الطبيب السعودي متى ما احترم عمله في عيادته العامة كاحترامه لعمله في مركز خاص، ومتى ما قدم مهنته وأخلاقها على المادة، فهو بلا شك أفضل طبيب. ولعلي أذكر هنا أيضا الدكتور عبد الرحمن العيسى، ومحمد البواردي في مجال الأنف والأذن والحنجرة، الأول لأن قائمته للعمليات لديه لا تغلق إلا آخر يوم لأنه يستمر في الإضافة عليها، والثاني لأنه فتح عيادة مجانية لغير القادرين من الفقراء، وهما من أقدر الأطباء في مجاليهما.

الكثير من أطبائنا ولله الحمد يعكسون قيمهم الأخلاقية والمجتمعية الحميدة، وجميعهم يبحث عن الأجر في الآخرة قبل الدنيا. وكان لا بد من ذكر الأسماء ليعرفوا أننا نكن لهم الاحترام والتقدير الشخصي، وليعرف الجميع أن المجتمع لا ينسى أفضالهم، مع الاعتذار لزملائهم الذين لم تتح لنا الفرصة لمعرفتهم.

latifmohammed@hotmail.com
Twitter @drmalabdullatif
 

وجع الضرس
د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة