Tuesday 22/11/2011/2011 Issue 14299

 14299 الثلاثاء 26 ذو الحجة 1432 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

فـن

 

فنان العرب بين المحلية والعالمية
سلمان الأفنس ملفي *

رجوع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محمد عبده، فنان الشعب، صوت يصرخ في برّية الخلود، أم كروان يصدح في سماء العالم ؟ أم تراه طائر النور الذي يأخذ مستمعه إلى آفاق نغم كوني يرجرج الوجدان، ويجيّش المشاعر ويطرب العقل والروح، فننتشي مع صوته، ونحلّق إلى سموات ممتدة ، وطيوف بعيدة من السحر الأخّاذ لصوت العشق الصادح بالحب، والداعي للسلام بين البشر، فبالغناء تحلو الأيام، ونستمد السعادة والقدرة على مواصلة الحياة وشظفها وكدّها، إذن نحن لسنا أمام مطرب، بل أمام جرّاح للمشاعر، وطبيب للعواطف والقروح التي تندمل بالغناء الشجي، والشجن السامق .

نحن إذن أمام عبقرية سعودية، ولسنا أمام مطرب عادي يمر كلامه من الأذن ولا يصل للقلوب، بل نحن مع أمير يجذب النور إلى العقل، ويجذب الدفء إلى الروح الشاهقة بعبير الموسيقى الرقراقة الحالمة، وغناء الكراكى والبلابل مع إيقاع الدفوف والتخت، وآلات النور التي تصدح في قلوبنا، قبل أن تصل إلى مرافئ السماء، وشواطئ الروح الفينانة بنغم سامق عبقري ورائد.

وقد يقول قائل : مالك يا سليمان، يا حكيم الزمان، تحدثنا عن مطرب ككل المطربين، غناؤه حلو، وصوته عذب لكن أتقول فيه شعراً أم تحلل أعماله الغنائية ؟

الحق أقول : إن محمد عبده ليس ككل المطربين، بل هو مطرب العرب جميعاً، لأنه يقدم الكلمة الشاعرية الطروبة ، ذات الألحان التي تتسق والذوق العام العربي، فهو لا يسفّ في غنائه، ولا يتخير إلا الكلام العذب الذي يخاطب قضايانا الملحّة الجادة، لذا تجيء أغانيه ذات رقي وسموق، وتأتي الألحان مصاحبة لهذا الـ (كونترباص) الذي يحمل مذاق العرب وموسيقاهم ، ومع أن الكونترباص آلة غربية، إلا أن الكلمات التي يقدمها يختارها على العود ، والعود آلة العرب الغنّاء، ذلك المعشوق ذو الأوتار الصاهلة والشاحلة في الروح والممطرة عذب الموسيقى الشاهقة الفريدة .

وباختياره للشعر الرصين لكبار الشعراء والكتاب العرب استحق لقب مطرب العرب الأول ، بل إن أغانيه تعدت المنطقة العربية ليعرفه العالم فناناً ملتزماً ، يعرف كيف يختار الكلمة التي تناسب عاداتنا وتقاليدنا العربية ، لذا نال قلوب الملوك والشعوب فأحبه الجميع خاصة الملك عبدالله بن عبدالعزيز بن سعود ، كما أحب وشجع من قبله الكثيرين ، من أصحاب المواهب الجادة والمحترفين الذين يرفعون مكانة المملكة في التمثيل العربي والدولي؛ فكان سفيراً للمملكة في عالم الفن لذا يقال هذا فنان سعودي عرفه العرب وعرفه العالم لرصانته ولصوته العذب ولموضوعاته الجادة التي يختارها لألبوماته الرائدة.

ولكن ترانا نسأل للآن: لماذا تردّى الغناء العربي ، ووصل إلى درجة من الضحالة والإسفاف، حتى انصرف أغلب جمهور الذوق الغنائي وعادوا إلى الأغاني القديمة ، والى الروح التي تتمثل الأصالة الجادة؟

أقول: إن العرب قد ألفوا الذوق الرفيع، والكلمة الجادة التي لا تخدش الحياء العام، ولا تقدم ما من شأنه العبث بتراث الفن الغنائي العربي لذا انصرفوا إلى الأصالة نظراً لضحالة المعروض واتجهوا لصوت الطرب الأصيل فكان محمد عبده هو الأقرب والامتداد لمسيرة العظماء السامقين ، الذين أثروا الذاكرة والتراث الغنائي العربي بالعديد من أغانيهم التي خلّدت ذكراهم، لإيمانهم بقيمة الفن كرسالة وموهبة، وحياة سامقة وخلوداً للشعر والغناء العربي الأصيل، ولكن لماذا محمد عبده - الآن - وكيف غاب عنا ذكره لسنوات خلت ؟

أقول لم يغب عنا محمد عبده - أبداً - فقد تربت أذواقنا على غناء الكبار محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، وفريد الأطرش ، وعبدالحليم حافظ ، وكان محمد عبده، الأقرب إلى لهجتنا السعودية وإلى تراثنا العربي، فكانت له المكانة العظيمة في قلوبنا وأذكر أنني عندما كنت صغيراً، وكنا في رحلة مدرسية من الدمام إلى الأحساء، حيث عين أم سبع ، وعين أم نجم، كان أتوبيس الرحلة يمضي، وسائقه يضع أغنية راقت لمسمعي والفنان يتردد: (كنا سوى اثنين ... درب الهوى ماشيين) ورسخ بأذني حينها أنه يقول : (درب الحساء ماشيين) ، ولم تنفك هذه العبارة أرددها، رغم تفهّمي لكلماتها بعدما تفتّق ذهني، وأدركت معاني الكلمات الغنائية .

وحينما بلغت مبلغ الشباب، كان صوته أقرب ما يكون لي وهو يردد (أبعتذر)، وحينما خضت غمار العمل والحياة الصعبة، كانت كلماته في الأغاني الوطنية حافزاً تلبّسني بالنشوة، والعزة، وهو يغني (فوق هام السحب).

وقد شهدت فترة السبعينات العديد من النجاحات في مسارح عديدة من البلاد مثل (الكويت، قطر، لبنان، الإمارات، ومصر)، حيث الانطلاقة الأكبر ليصبح محمد عبده سفيراً للأغنية السعودية، وتطور الحال إلى أن أصبح سفيراً للأغنية الخليجية ثم للجزيرة العربية كلها، بعد طرقه ألوانا غنائية من مختلف مناطق المملكة والخليج العربي والجزيرة العربية ككل، حتى أصبح يلقب محمد عبده باسم (مطرب الجزيرة العربية) أو (فنان الجزيرة العربية)، وهذا اللقب لم يأت من فراغ مطلقاً كون محمد عبده تعرف أولاً على الأمير الشاعر (خالد الفيصل)، وقدم له قصائد نبطية مثل (يا صاح، أيّوه، سافر وترجع، وغيرها)، دخل محمد عبده معها ألواناً أخرى مثل السامري في إيقاعات رائعة جداً، هذه الألوان الصعبة من كلمات أيضاً، انتشرت في كل مكان خارج نطاق الجزيرة العربية بعد أن انتشرت داخلها، كما قدم العديد من الأغاني التراثية في اليمن والجزائر وتونس والمغرب والكويت .

بعد ذلك جاءت رائعة (أبعاد)، وتعاون مع الشاعر الكويتي الكبير فائق عبد الجليل (رحمه الله) وألحان كويتية أيضاً مع الملحن الكبير (يوسف المهنا)، لتخرج محمد عبده من نطاق العالم العربي، فقام مطرب إيراني بترجمة معاني هذه الأغنية بنفس اللحن وقدمها بصوته, وقام آخر هندي بترجمتها أيضاً، بالإضافة إلى فرقة عربية قامت بغناء هذه الأغنية مثل (عائلة البندري)، ناهيك عن الفرق الغربية في اليونان وتركيا وعدد من دول أوروبا الذين قاموا بغناء أغنية (إبعاد).

نعم، أبعاد أغنية عالمية، وفوق ذلك كافة الجاليات غير العربية المقيمة في الخليج قد تعرفوا على محمد عبده بهذه الأغنية وأخذت بعد ذلك كافة الأشرطة الخاصة به، ليتم نشرها في بلادها، رغم عدم معرفتها للغة العربية، لكن أغاني محمد عبده انتشرت في كثير من البلاد في المشرق والمغرب.

وبعد انتهاء عيد الفطر لعام 1420هـ فاجأ محمد عبده الجمهور والمتابعين بمفاجأة المفاجآت (مجموعة إنسان)، كلمات لمختلف بل لكبار الشعراء أمير النبطي خالد الفيصل، و المهندس بدر بن عبد المحسن، و غازي القصيبي (رحمه الله)، و أسعد عبد الكريم، ألبوما ضم ست أغنيات، وانطلق بعدها إلى الكويت ليقيم حفلا بمناسبة مهرجان هلا فبراير 2000م وطرح ألبومين لها، وكانت أغنية (يا ناعس الجفن) من ضمن الأغنيات التي يتساءل عنها الجمهور دائما.

وعودة للشعبيات والآن مع رقم (7) ألبوم يحمل اسم (يماني حجاز - يماني خليجي)، وبه أغاني تراثية رائعة مثل (يا مستجيب للداعي - مال غصن الذهب - سكان الحما)، وشهدت هذه الفترة أنشطة وطنية مختلفة والمشاركة في حفلات ومهرجانات مختلفة في كل مكان داخل وخارج العالم العربي، حتى جاء مهرجان جدة 2000م، ومشروع أغنية ناجح بكل المقاييس تحمل اسم (بنت النور) من كلمات الأمير فيصل بن تركي.

وألحان الملحن الرائع ناصر الصالح، وأعاد خلال ذلك الحفل أغنية (شفت خلّي) بعد مرور 26 عاما على أول طرح لها، علما بأن محمد عبده طرح ألبوم (بنت النور)، وحقق هذا الألبوم أرقاما فلكية في التوزيع.

وانتقالا إلى جدة 2001م، وبعد مجموعة إنسان تأتي (شبيه الريح)، ومن كلمات عبد الرحمن بن مساعد وألحان صادق الشاعر، مع تجديد للقديم مثل (غنى الحمام)، (يا حبيبي آنستنا) وهي كانت أول ثمرة تعاون بين محمد عبده والملحن سراج عمر في عام 1971م، لذلك أصبح قديم محمد عبده يتنافس مع جديده، والجمهور هو الفائز بالاستماع لروائع فنان العرب، لكن بعد كل هذا الاستعراض ماذا عن الجديد؟

قدم فنان العرب في حفلات جده 2002 جديده مع ناصر الصالح بعنوان (أعترف لك) التي أصبحت مطلبا جماهيريا من وقت نزولها مع عدة أغاني في شريط خاص بالحفلة، كما أهدى فنان العرب للوطن ألبومين بمناسبة مرور عشرين عاماً على تولي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- مقاليد الحكم وقدّمه مع مجموعة من صحف الوطن.

بعد ذلك قدم فنان العرب ألبوماً مهماً حمل العديد من الأغاني ذات النسق المتطور، حيث صرح حينها بأن الألبوم يعبّر عن نقلة نوعيّة لفنان العرب.

أضاف فنان العرب الكثير للمستمع العربي من خلال رحلاته في بلاد العرب والعجم لإحياء الفرح ونقل الموروث لكل أنحاء المعمورة.

وقد شارك فنان العرب الوطن في أفراحه كما شاركه همومه ومشاكله ووقفته ضد من يعبث بأمنه، وقدّم عملا مشتركا مع زملائه الفنانين، وعملاً منفرداً تواجد به شامخاً ليثبت أن للوطن معه قصة لا تنته فقد قدم فنان العرب ألبوما كاملاً من ألحان محمد شفيق يحمل عنوان (علمتها)، كان فيه الحديث عن غياب الأغاني العظيمة ثم كان الألبوم مسموعاً، وطرح بعد ذلك في حفلات جدة وأبها (كوكب الأرض)، التي قدمها كما لم يقدمها أحد، حيث برهن من خلال تقديمه لها بأنه فنان الوطن الأوحد.

ولكننا هنا لسنا في معرض سرد تاريخي لحياته الفنية، ولكن نظراً لتجديد الذاكرة العربية بسيرة هذا الفنان العاطرة، وجب علينا أن نقدم ملمحاً تاريخياً عنه، ولكننا نشير فقط لحفلاته و إلى ما قدمه للسعودية خاصة وللعرب عامة، ما جعل مسيرة السعودية والعرب في آفاق سامقة لدى الغرب وفي جميع أقطار العالم .

نحن فقط - هنا - نتذكر فناناً مبدعاً، فناناً تربينا على شجنه وشجوه، ورسالته السامية التي تعتبر رسالتنا جميعاً ، كأدباء ومثقفين، حيث تتكامل الألوان الإبداعية لنشكل خطاباً ثقافياً رائعاً وجديداً ومتجدداً لفنان سعودي أثرى الغناء العربي وأثرى مسيرة التراث الغنائي العربي وحافظ على الشعر وتذوقه فأضافت الموسيقى والألحان للكلمة عظمة وبهاءً وخلوداً أيضاً .

إن صوته لا يزل يتردّد في ذاكرتي، ويتجّد في صباي وفي عقود متأخرة من عمري، وكذلك فإن أغانيه أعيشها يوماً بيوم، قديمها الممتع، و جديدها الإبداعي وها هو اليوم لا يزال كما عرفته من صغري شاب الصوت والتجديد والإبداع .

سيظل محمد عبده فنان العرب الأول، وستظل أغانيه شامخة كنخيل المملكة الغراء لا تنحني لزوابع، ولا لرياح فالشموخ والعظمة تظلان رغم توالى السنون وتعاقب الأعوام.

إنني من كل قلبي أدعو الشباب الواعد في المملكة للتمسك بالغناء السامق والابتعاد عن الهزل والسخف والغث الذي تمجّه الأذن العربية وترفضه، ليبق للعرب غناؤهم وتراثهم الغنائي السامق والشاهق والفريد أيضاً.

*نائب الأمين العام لرابطة أدباء العرب عضو هيئة الصحفيين السعوديين

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة