ليست كل الأحوال والظروف التي تمر بالإنسان أو يمر بها سواء؛ فهي متقلبة متغيرة، متجددة متبدلة، لا تستقر على حال أبداً، وهذا ما جعلها مشوقة محفزة مثيرة، تدفع السأم والملل، الرتابة والنمطية.. في النهار بهجة وحيوية وحركة ونشاط، وفي الليل هدوء وسكينة واستقرار وراحة، وفي الفصول الأربعة وتنوع مناخاتها ومظاهر الطبيعة فيها ما يحرك الوجدانات والمشاعر، ويجدد الآمال والتوقعات، ويبعث في النفس الشوق إلى الآتي وما يحمله من جديد وبشائر تشتاق لها النفس وتطرب، فالشتاء البارد الموحش الكئيب يتبعه الربيع الدافئ المبهج بخضرته وتعدد ألوانه، والصيف القائظ بحره وقره يتبعه الخريف بنسماته واعتداله وتنوع خيراته وثماره، من هنا تنبع الحيوية وتتجدد البهجة، ويظل الإنسان في شوق وانتظار لما هو آت مهما كانت احتمالاته ومفاجآته، أمنه ومخاطره، فوائده ومضاره، المهم أن النفس في حركة دائبة تنتظر الآتي بمنتهى الترقب والشوق والأمل.

الظروف عديدة عناوينها، والأحوال كثيرة تقلباتها، تتنوع مفاجآتها، وتتبدل طبائعها، وتتعدد صورها، آلامها شديدة، واضطراباتها حادة، ومع هذا، ومن نعم الله أنها لا تستقر على نمط واحد مهما كانت حلاوتها أو مرارتها، قبولنا لها أو رفضنا، فميزتها أنها لا تطول لأمد بعيد، تتقلب وتتبدل وتتنقل عجلى من حال إلى حال، هكذا ديدنها، وقديماً قيل: «دوام الحال من المحال»، فسبحان مبدل الأحوال ومغيرها.

في كل زمان، وفي كل مكان، هذه حال الدنيا وطبيعتها، لا تستقر على نمط واحد أبداً، ورحم الله أبو البقاء الرندي حيث قال:

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

ولأن الدنيا بهذه الصفة، في كل أمورها وشؤونها، تسر النفس حيناً، وتسوؤها أحياناً أخرى، العامة يطلقون عليها «خوينة أو خوانه». ولكي يوطن أحد السلاطين نفسه على تقبل أحوال الدنيا المتقلبة المتغيرة جمع حكماء بلاطه، وطلب منهم أن يختاروا له «حكمة» شاملة مناسبة بليغة جامعة يعلقها فوق عرشه؛ كي ينظر إليها كلما عرض له عارض من عوارض الدنيا، يستأنس بها ويتعظ، يوطن بها نفسه ويكيفها ويواسيها، ويأخذ منها العبرة من تقلبات الأمور التي تعرض له في حاله وبلاده، يستفيد منها ويوظفها في ترويض نفسه وتهذيبها عندما تمر به أزمة وشدة، أو بهجة وفرحة، تعينه وترشده إلى الصواب في القول والعمل.

استغرب الحكماء هذا الطلب، وتعجبوا منه، كيف يطلب السلطان حكمة تنطبق على كل الأمور وهو يعرف أن أحوال الدنيا متنوعة متعددة مختلفة، فما يصلح لحال لا يصلح للحال الأخرى؟ احتاروا وطالت الحيرة بهم، أين تلك الحكمة التي تنطبق على كل الأحوال والظروف؟ أحوال الرخاء غير أحوال الشدة؛ ففي أوقات الرخاء فرح وسرور وبهجة، وفي أوقات الشدة ضيق وهَمّ وغَمّ، ومع هذا اجتهد الحكماء وجاؤوا بعبارات موجزة، بليغة حكيمة، تنطق كل واحدة منها وتجسد عبرة وحكمة وعظة، لم تعجبه أي واحدة منها عدا واحدة، استوقفته وأعجبته.

إنها الحكمة التي تنطبق فعلاً على كل الأحوال والظروف «كل هذا حتماً سيمر». نعم، كل شيء يعرض للإنسان في هذه الدنيا سيمر، مستحيل أن يستمر، أو تستقر حال على نمط واحد مهما كانت الأحوال، ومن يظن غير ذلك فهو واهم؛ لأن شواهد الحياة تؤكد ذلك وتؤيده.

عاش البعض أيام بهجة وسعادة وفرح وضحك، مرت تلك الأيام وانقضت، حتماً أعقبها أيام حزن وألم وترح وضيق وبكاء، هكذا هي أيام العمر، تمر عجلى، ولم يعد يتذكر أحدنا ما عاشه فيها من فرح وألم، وستمر الأيام اللاحقة كما سابقتها حبلى بالمتناقضات، وعلى الإنسان أن يستثمر الأيام بل السويعات التي يعيشها، لا يلتفت لما فات، ولا ينتظر ما هو آت.

قد تتراكم الأرقام في حسابات البعض، عندها تبدو عليه مظاهر النعمة والغنى، ربما يوظف هذه الأموال في الاستمتاع بالمتع والشهوات، قد يفقد هذه الأموال، لكن إن لم يفقدها، ستمر به حتماً أيام يفقد فيها لذة المال وشهوته وبريقه وصور الاستمتاع به.

للحديث بقية

ab.moa@hotmail.com