Tuesday 29/11/2011/2011 Issue 14306

 14306 الثلاثاء 04 محرم 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

 

عن ثلوثية الدكتور محمد بن عبد الله المشوّح
أ.د. محمود بن إسماعيل عمار

رجوع

 

بين يدي الثلوثية

إني امرؤ مولع بالثقافة، أتبعها حيث حلت، وأسير معها أينما اتجهت، حتى لو ركبت متن السحاب، وحلقت في أرجاء الفضاء، وأوغلت في الكهوف والأدغال, وجالت في الصحاري والقفار.. فهي الظل في رحلة الحياة، والسخاب الذي ليس عنه مندوحة، والمعين الذي ليس عنه غناء.

وقد أقمت في القاهرة عشر حجج، لم يبلغني خبر ندوة، في جمعية أو منتدى أو مناقشة رسالة: في الأزهر، أو جامعة القاهرة، أو عين شمس، إلا طرت إليها وهرعت نحوها، كالظامئ الذي أفرى كبده الظمأ، والمسافر الذي كوته سياط الهجير.. طرت إليها لأرتوي من تبادل الآراء، وأنتشي بوجهات النظر، وأستمتع بصراع الأفكار.

وحين كنت في إحدى المدن في المملكة، قبل أربعة عقود، فكرت في الدعوة إلى إقامة «صالون ثقافي» في بيت أحد النخب الثقافية، يضم المهتمين بالشأن الثقافي.. ولكن الوعي الثقافي بالمدينة آنذاك، لم يكن مؤهلاً، والمثقفين، وموارد الثقافة ما تزال محدودة.

وقد جاءت الأندية الأدبية بعد ذلك، ففتحت قنوات الري للظامئين، وضخّت نسغ الثقافة في أردية المجتمع، وتدفّقت ألوان جديدة من الفكر في شرايين الشباب، وأذكر أنني لم أتخلف عن محاضرة واحدة، في نادي تلك المدينة، حتى قد اعتذرت من خاطب لابنتي ذات يوم، لأنه صادف موعد محاضرة في النادي، وحين قصصت ذلك على رئيس النادي ضحك ملء فيه.

ولما هبطت مركبتي في الرياض - هذه المدينة العامرة، بل هذه العروس الفاتنة - وجدتها كالحديقة الغناء، تتعدد فيها الجداول والخمائل، وتنتشر فيها الطيور المنشدة والمغردة، وتونق الأزاهير بألوانها الزاهية، وعبقها الفواح.. تعج بالحركة والثقافة والمنتديات، كما لا توجد في مدينة أو عاصمة عربية أخرى - على معرفتي بها جميعاً - وتذكرت عندما كنت في مصر، وكنا نطالع الصحف المصرية آنذاك، فنجد فيها باباً تحت عنوان: «أين تسهر هذا المساء؟» يعرض عليك قائمة بأسماء المسارح ودور السينما، وما فيها من المسرحيات والأفلام، لتنتقي منها ما يساعدك على قضاء ليلتك، والاستمتاع بوقتك.

وأنت في الرياض.. تستطيع أن تسأل صاحبك أو صديقك: «أين تسهر هذه الليلة؟» وأي المنتديات الثقافية والأدبية والفكرية ترتاد؟.. وإنك لواجد في كل ليلة، منتدى أو أكثر إجابة على سؤالك، وما عليك إلا أن تختار ما يلائم رغبتك، ويوافق ميولك.

وفي هذه الملتقيات.. يأتلف شمل لفيف من عشاق الفكر، ورواد الثقافة، وصناع الأدب، من كل المشارب والأذواق، في روح اجتماعية، تتسم بالأخوة والحميمية، تضم الشباب والشيوخ، يتحدثون في موضوعات وقضايا عدة، ويفسح المجال لتبادل وجهات النظر, بما لا يكاد يصدقه المرء، وهذا جانب يجهله العالم الخارجي عن الحياة في المملكة، وتشكيلها الفكري والثقافي..

أقول ذلك لأسجل هذه الظاهرة الصحية من الوعي الاجتماعي، والسلوك الحضاري، والنضج الفكري في تواصل الأجيال، وبناء المجتمع.

ندوة المشوّح

هذه الندوة علامة بارزة في المشهد الثقافي، على الرغم من حداثة سنها، إذا ما قيست بندوات قاربت مسيرتها نصف قرن من الزمان، ولكن تقويم الأشياء لا يتوقف على عمرها في عدد السنين، وإنما بالإنجاز الذي تنجزه، والمنتج الذي تفخر به، والجدوى الاجتماعية والفكرية التي تقدمها للناس، وربما اكتسبت هذه الشخصية من خلال عميدها الدكتور محمد المشوِّح وعلاقاته، ومن خلال اختيار ضيوفها وتميزهم، ومع التسليم بأن لكل ندوة مذاقها الذي تنفرد به، واتجاهها الذي يحدد مسارها.. فهي في الوقت نفسه، ترضي ميول فئة من الرواد، يتعشقونها ويترددون عليها.

تنعقد ندوة المشوح مرة كل أسبوعين، يوم الثلاثاء، فيما عدا العطل الرسمية وموسم الصيف، وقد تتخلف من وقت لآخر عن موعدها لارتباطات أخرى.. وقد دلني عليها أحد الأصدقاء الأوفياء، المصابين مثلي بحب الثقافة، ممن يعانون قلق الحوار، واستطلاع رأي الغير، ويستمتعون بالحديث أو الاستماع إلى الشخصيات البارزة..

ولكي أكون منصفاً في الحديث: دعني أتحدث بحرية تامة، كما نتحدث في الندوات، حين لا يقول لك أحد توقف، أو ممنوع الدخول، وهذا يقتضي أن أتناول أربعة جوانب سأعرضها فيما يلي:

ظاهرة الترف والثراء

يتملك الزائر لهذه الندوة، من أول وهلة.. مشاعر مختلفة، لعل في مقدمتها: الشعور بالتردد والتهيب، وتأخذه - باسم الله ما شاء الله - روعة المكان، وفخامة المظهر، بدءاً من الحي الذي تقع فيه، ومن الشارع المزدوج الفسيح الذي يحاذيها، ومدخل القصر الذي يسمح للسيارة أن تدخل حتى البوابة الداخلية، في حركة دائرية يتوسطها تشكيلات فنية، ونافورة، وأشجار يانعة جميلة.

ويحس الزائر عندما يدخل، كأنما أعد القصر لهذه الغاية، وفي خدمتها.. فهو يضم جناحين كبيرين، أحدهما إلى اليسار، حيث قاعة الاستقبال، التي تعقد فيها الندوة، وقاعة إلى اليمين، حيث صالة الطعام.. وبينهما المنافع المختلفة، والقاعتان من الامتداد والاتساع، بالقدر الذي يحتمل طوارئ الحاضرين، كثرةً أو قلةً، وأنواع الرواد، ومستوياتهم، وهو بهذا الرسم الكروكي الذي وصفته لك، يحقق أغراض الندوة، على أحسن وجه، وأيسر طريقة، وبصورة سلسلة وعملية.

وخلف القصر ملاحق تراثية.. تنقلك من عصرك الذي تعيشه، وبيئتك التي ألفتها، ومجتمعك الذي تعرفه.. إلى أعماق التاريخ، ومضارب البادية، وتقاليد الصحراء، وتراث الآباء والأجداد.. حتى لو أصغيت لأوشكت: أن تسمع ثغاء الماشية، وجذب الأرشية، ومتح المياه، وأصوات الرياح بكل فج ، وتتدفق عليك فناجين القهوة العربية، وينطلق عبق البخور، وتتصاعد ألسنة اللهب من موقد النار التقليدي، والمدخنة والكور, وكل اللوازم، التي تدعوك أن تتمثل تلك الحياة الأصيلة الممتدة الجذور إلى: مخ الحياة العربية، وصلب تكوينها.

ولا أحدثك عن المائدة الفاخرة، التي يشرف على إعدادها أحد أشهر المطاعم في مدينة الرياض، والتي يدعى إليها الضيف والرواد بعد الندوة، والتي لا تقدم مثيلاتها إلا لكبار الضيوف الأعزاء، الذين طالت غيبتهم عنا، ولقيناهم بعد قنوط ويأس.. يقول بعض الناس: هذا كرم وأريحية، ويقول آخرون: هو أبهة ووجاهة، وأياً كان الأمر.. فهو صورة من صور هذه الندوة، يريد صاحبها أن تتسم بها وتظهر عليها.

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة