Monday 26/12/2011/2011 Issue 14333

 14333 الأثنين 01 صفر 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

كان أبو محجن الثقفي فارساً مقداماً, وكان شاعرًا فذًا, وكان جوادًا كريماً, وكان ذا مروءة وخلق أبي, ولكنه كان مع ذلك مولعاً بشرب الخمر حتى نُسب إليه أنه قال:

إذا مـت فـادفنـي إلى أصــل كرمـة

تـروِّي عظـامي بعـد موتـي عـروقُـها

ولا تدفـننـي بالفـــلاة فـإنـنــي

أخـاف إذا مــا مــتُ ألا أذوقــهـا

وهي عادةٌ اكتسبها في الجاهلية, وأدمن عليها, وعندما أسلَم راضَ نفَسه على تركها, ولكنه أخفق, ومن هنا فقد حدَّه عُمر- رضي الله عنه - مرارًا وفي كل مرة كان يتوبُ, ويعاهُد عمر على تركها، ولكنه يعودُ في النهاية إلى شربها رغم إيمانه بحرمتها, واقتناعه بضررها, وعندما يئس عمر - رضي الله عنه- من علاجه, وضاق به ذرعاً - نفاه إلى إحدى الجزر التي كانت العربُ تنفى فيها خلعاءها, وأرسل معه حارساً يحافظ عليه حتى لا يهرب, وأسقط في يد الرجل, كيف يعيشُ في هذه الجزيرة ِالنائِية بدون رفيق أو أنيس, وكيف يطيب له المقامُ ويخلُد للراحة وهو البطل الصنديد ومكانه ساحة الوغى, وهوايته الحربُ والطعان, ولما كان أمرُ عمر - رضي الله عنه - صارماً لا رجَعة فيه - فقد أظهر الرضا والإذعاَن إلا أنه طلب السماح له بأن يحمل معه غرارتين مُلتئا دقيقاً, حيث عمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة, وغمده في الغرارة الأخرى, وعندما تعدت القافلةُ حدودَ المدينة - جلس مع حارسه يستريحان, ثم تظاهر بأنه يريُد أن يخرجُ من الغرارة ما يأكله, ولكنه بدلاً من أن يخرج ما يؤكل- أخرج سيفاً يلمع, ويتطاير شراراً, وهنا صرخ الحارسُ, وذعرَ, ولاذ بالفرار متهجاً إلى المدينة...

وبدأ الرجلُ يفكرُ هل يذهب إلى المدينة؟.. إن فيها عمر, وعمرُ لا تأخذه في الحق لومةُ لائم, وإذن فليذهبْ إلى القادسيةِ حيث تدور رحى المعارك بين المسلمَين وأعدائهم, فذاك هو مكانهُ الطبيعي، ولكن هل يمكن أن يفلتَ من قبضةِ عمر - رضي الله عنه -, لقد وصل خطاب عُمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص يأمر فيه بالقبض عليه, وإيداعه السجن, وكانت المصُيبةَ عليه أشد وَالفاجعةُ أنكى, لقد كان يتألمُ لأنه سوف ينفى إلى إحدى الجزر وهو الآن يرسف في قيده, وفي مكان ضيِّق هو السجن, وعمل كل ما في وسعه لاستعطاف سعد, ولكنه دون جدوى, فالأمر قد صدر من خليفة المسلمين - فذهب إلى سلمى زوجة سعد وأم ولده, وقال: لها هل لك في فعل خير تؤجرين عليه, قالت وما ذاك؟.. قال تفكين قيدي, وتطلقين سراحي, وتعيرينني (البلقاء) فرس سعد, وأعاهدك عهدًا صادقاً على أن أعود بعد أن تضع الحربُ أوزارها إلى السجن, وكأن شيئاً لم يكنْ, ولما كانت سلمى من النساء الحصيفات الأريبات, ولأنها أدركت صدق الرجل عندما سمعته يترنم بأبياتِه التي يشتاق فيها إلى الحرب والطعان - فقد أطلقت سراحه, وسلّمته (البلقاء) وخرج إلى القتال إلى ميدان الحرب والطعان, وصال صولات, وجال جولات أذهلت الأعداءَ والأصدقَاء, وتهامس الناسُ, من هذا الرجل؟ من هذا البطل الصنديد الذي يصول ويجول في المعركة الذي جعل ميزان الحرب يميل لصالح المسلمين, إن الفرس هي فرس سعد (البلقاء), ولكن الرجل غيرُ معروف, وبعد منتصف الليل وبعد أن انجلت المعركةُ عن نصر مؤزّر للمسلمين بفضل هذا القائد الشجاع - عاد الرجلُ إلى قيده..

ولما أصبح الصباح ظهرت الحقيقةُ, وعُرف الرجُل أو الجُندي المجهول, وهنا قال سعد - رضي الله عنه- « لا والله ليس مثلك يوضع في السجن ولن يرضى بذلك عُمر رغم أنه هو الذي أمر به» وهنا ظهرت حقيقةُ ذلك الرجل, وبان معدنه الكريم, وتكشّفت نفسيته الصافية, لقد قال لسعد: « اسمع يا سعد لقد كنت آنف من ترك شرب الخمر, من أجل الحد, أما الآن وقد أطلقت سراحي من غير حد- فإني أعاهدك وأعاهد خليفة المسلمين على تركها وهجرها إلى الأبد, وصدق الرجل في قوله. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

 

شجاعة ونبل
محمد بن صالح الجاسر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة