ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Monday 02/01/2012/2012 Issue 14340

 14340 الأثنين 08 صفر 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

حفل عام 2011 بمفاجآت وتغيرات تاريخية، إلا أن من بينها ما لم ننتبه إليه جيداً وهو تحول عالم الإنترنت الافتراضي والتواصل الاجتماعي والترفيه إلى عالم واقعي جاد أسقط أنظمة وغير مفاهيم.. الأعجوبة ليس في ضخامة تأثيرات الإنترنت المتوقعة بل في غير المتوقع الذي باغتنا..

هذه التأثيرات لم تخطر على بال أي مفكر مستقبلي أو مراقب عادي، مما رفع من قيمة مقولة الفيلسوف كارل بوبر: «لا يمكن التنبؤ بمجرى التاريخ الإنساني بأي طريقة من الطرق العلمية أو العقلية». فمنذ بدايات الإنترنت قيل لنا كثيراً عن تأثيراته المتوقعة والأكثر جنوحا، كأطروحة المفكر الأمريكي كيفن كيلي التي خلصت إلى أن هذه التكنولوجيا لن تميز بين الحقيقي والتمثيلي، ولن يصبح هناك فرق واضح بين الواقع والصورة.. وسيحصل خلال العشرين السنة القادمة تهجين بين الخيالي والوثائقي..

ماذا فعلت الصورة في عقولنا؟ هي لم تكتف بمزج الخيال بالواقع بل صارت الصورة أصلاً للواقع. فالصورة حتى لو كانت محرَّفة تبقى في أذهاننا بينما الحدث الواقعي الذي لم تلتقطه الصورة تعتبره أذهاننا غير موجود! أو كما تقوم فلسفة بورديار: «الأشياء لا تحدث إذا كانت غير مرئية».. فقوة تأثير وسائل الإعلام وهيمنتها أفضت إلى ما فوق الحقيقة حسب تعبير بودريار..

كيف يكون شيء ما أكثر حقيقة من طبيعته؟ إنه تداخل الالتقاط الذهني للوقائع المتتالية الممزوجة بالخيال.. فالخيال بالنسبة للذهن ليس أقل واقعية من الواقع، بل هو أكثر استمرارية.. ألم يقل الفيلسوف برجسون: «عندما لا أعترف بالواقع، فذلك لأنني مستغرق في الذكريات التي طبعها الواقع ذاته على نفسي». هذا الخيال مع صور الأحداث المتتالية وتفاعلها في بيئة الهيمنة الإعلامية، يجعل الحدث مكثفاً أو يجعله في المخيلة حدثاً أكبر من الحدث نفسه.

ها نحن ذا، متسمرين أمام الشاشة الإنترنتية ينمو الوهم فينا تدريجياً يوماً بعد يوم، دون أن نشعر.. ويُختصر العالم ويُعقلن ويتنظم في ملايين الوحدات الإعلامية التجارية، ولكن العالم الخارجي الواقعي يظل غير ذلك تماماً. صارت تتشكل أمامنا كل لحظة صور وقصص واقعية ممزوجة بالخرافة أو بخيال الناقل، وقد لا نصدقها لكنها تقبع في أذهاننا. ومع السيل الجارف للصور وللأخبار أصبحنا نعيش أكثر داخل أدمغتنا.. وأصبحت الحقيقة توجد فقط داخل رؤوسنا. أصبحت الحياة أكثر ذهانية، أكثر داخلية، أكثر توجُّهاً لإرضاء الرغبة الذاتية...

هنا يتجسد الإنترنت باعتباره «الاتصال المطلق والانعزال المطلق» على حد تعبير كارفيل.. أنت مع الناس جسدياً ولست معهم اجتماعياً ولا نفسياً. فالإنترنت يطوق عقلك وقلبك بالإيميل وبرسائل الجوال وبالإعلانات التجارية وبمليون إغراء يفتنك لبرهة، لتغرق في رغباتك الذاتية.. فشاشة الإنترنت هي كل العالم، بينما العالم الواقعي المحيط بك يكاد يكون غير موجود!

لقد انبرى المفكرون المستقبليون الأمريكان يروجون لفكرة غارقة في رأسماليتها مثل مالكوم جلادول الذي يرى أن الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية في زمن الإعلام الجديد تنحصر كلها تقريباً في المسألة التسويقية.. فحسب جلادول نحن في كل لحظة وبكل أنشطتنا الحياتية نمارس عملية تسويق بضاعة، وأفضل الناس هم الذين يعرفون كيف يُنتجون العاطفة (البضاعة) الأكثر تأثيراً وإثارة، الأكثر إرضاءً للجماهير (الزبائن). وعلى الطريق نفسه يقرر ديفيد بروك، بأن فصل الإنسان المعاصر عن الثقافة التجارية مستحيل، لأنه يعني فصله عن النشاط الأساسي للحياة العصرية.

ولا يرى مروجو الثقافة الإنترنتية التجارية بأساً في تزييف الواقع، لأنه حتمي لا يمكن تفاديه، وبالتالي ينبغي الاستفادة منه تجارياً والتمتع به، على منطق ما لا تستطيع مقاومته تمتع به! لذا تقول لنا مجموعة بو (Pew)، وهي مشروع الإنترنت والحياة الأمريكية: بدلاً من النحيب ضد التلاعب بالحقيقة استمتعوا بالترفيه التكنولوجي!

لم يكتف هؤلاء المفكرون الرأسماليون بالقول إنهم يتكهنون بالمستقبل كتوقع، بل اعتبروه حتمية تاريخية للحضارة الرأسمالية المتفوّقة. وليس ذلك فقط، بل عرَّفوا حياة الإنسان كملازم للمعنى التجاري، مما يرتبط معه إعادة القيم الإنسانية كلها وفقاً للمفهوم التجاري ويتحول الإنسان نفسه إلى بضاعة..

لكن الذي حصل العام الماضي كسر كل التوقعات. ما لم يدركه هؤلاء المستقبليون أنه إذا كان الإنترنت حتمياً، فإنّ قيمه التجارية ليست حتمية.. فالقيم تؤثر في الطبيعة العملية للتكنولوجيا. وإذا كانت طبيعة الإنسان لا تتغيّر، فإن التكنولوجيا تحفز بعض السمات البشرية وتخمد بعضها الآخر. فأيّ القيم التي حفزتها أو أخمدتها؟

فجأة، ثار الإنترنتيون على القيم التجارية وانقلبت المعادلة المتوقعة للمستقبليين التجاريين الذين غاب عن تفكيرهم أن مضمون الرسائل التي تنقلها وسائل الاتصال الجديدة لا تؤثر وحدها على المجتمع بل أيضا طبيعة هذه الوسائل التي غيرت من طرق تفكيرنا وسلوكنا.. أو أن الوسيلة هي الرسالة على حد وصف ماكلوهان.

لقد أنتجت هذه الوسيلة (الإنترنت) مفاجآت لم تكن بالحسبان. وإذا كانت حكاية المفاجآت ظهرت مع ويكيليكس التي سربت وثائق السياسة، واكتشف الناس خدع مريرة من تزييف السياسيين، وظهرت قيم احتجاجية جديدة بعيدة عن القيمة التجارية، فقد ظهرت أيضاً قيم ترفض لعبة السوق التجاري.

هنا انتقل الرفض مما يخدع عقولنا إلى رفض ما يخدعنا في الواقع الحي.. وتم إعادة قوام الواقعي/الافتراضي، فبدلاً من أن يمشي على رأسه صار على قدميه حتى خرج الشارع.. وحمل الفيسبوك لواء الاحتجاج والتمرد في تونس ومصر وسقطت أنظمة كانت تقود شعوباً.. وبعد أشهر امتد التأثير إلى كل بقاع العالم حتى وصل إلى وول ستريت في نيويورك عاصمة التجارة العالمية ومفخرة الرأسمالية!

هل دار في خلد مروجين الانتصار المطلق لثقافة الإنترنت التجارية بأن هذا الإنترنت سيشكل أكبر خصوم الثقافة التجارية وسيحاربها في عقر دارها؟ هل توقع المفكر بلاك حين قال: «إن العالم الذي كان قرية عالمية بالستينات صار بالتسعينات بناية ضخمة تضم عشرات الشقق، لكن كل ساكن يعيش في عزلة ولا علم له بجيرانه»، بأن الإنترنت كسر العزلة وجمع الأفراد المحتجين في كافة أصقاع العالم في مواقع موحدة.. نعم، هي مواقع افتراضية، لكن روادها صاروا مشاة محتجين في شوارع عواصم الرأسمالية.. فهل يجرؤ أحد أن يتنبأ لمشاة الإنترنت، إلى أين سيتوجهون؟

alhebib@yahoo.com
 

بطل عام 2011 .. أين سيتوجه مُشاة الإنترنت؟
د.عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة