ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Tuesday 03/01/2012/2012 Issue 14341

 14341 الثلاثاء 09 صفر 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

الميزانية قياسية هذا العام كما كانت ميزانية العام السابق قياسية في حينها. ولا شك أن هذه الميزانية لم تكن ممكنة لولا نعمة الله على هذه البلاد، ثم تدبير خادم الحرمين الشريفين الذي نسمع عنه الخبر بعد الآخر حول الحفاظ على المال العام بشكل يجعله قدوة الجميع..

..إلا أن الميزانية عندما تقرّ وتوزّع على مؤسسات الدولة المختلفة تدخل في دهاليز لا أول لها ولا آخر، ويصعب على أجهزة كبيرة متابعتها ناهيك عن خادم الحرمين الشريفين، ولذلك وجه - حفظه الله- بإنشاء هيئة للفساد، وهي هيئة لا يحسد من يقوم عليها لما سيواجهه من مصاعب ومراكز قوى، وندعو الله له وللهيئة بالتوفيق لأنهم على ثغر من ثغور الجهاد الداخلي ضد أهم الأمراض التي تأكل مقدرات الوطن والشعب.

المال الوفير قد يكون لا سمح الله مدعاة للتبذير، ومغرياً بأمور لا يرضاها لا الدين ولا الوطن من قبل قلة تعتبر وطنها أرصدتها البنكية فقط. والمال الوفير قد يحمل الخير الكثير مع الصدق والأمانة وحسن التدبير. ومن أول أبواب حسن التدبير أن ينظر للمال العام على أنه استثمار مثل الاستثمار التجاري، حيث يسعى التاجر لأفضل النتائج بأقل التكاليف. فعندما تتحقق مشاريع وطنية بكلفة خيالية تفوق كلفتها الحقيقية لا يعد ذلك إنجازاً، بل إخفاق، ومثله عندما يبخس مقاول مشروعاً وطنياً في مواصفات معينة غير المواصفات المتفق عليها. فمن الوطنية ألا يرضى المواطن إلا بأعلى المواصفات لوطنه.

لا نستطيع الحكم على الميزانية القادمة لأنها بحكم الغيب، ولكن لا مانع من أن نتكلم عن الميزانيات السابقة بنوع من الشفافية المطلوبة. فالميزانيات السابقة ركّزت على المشاريع، وبالذات على المشاريع الإنشائية ومشاريع البنية التحتية، واستفادت منها طبقات معينة من الشعب هم المقاولون الكبار وشركاؤهم من شركات الإنشاءات الأجنبية، على اعتبار أن فائدة المواطن ستكون غير مباشرة. كما ركّزت الميزانية على التعليم ودعم خادم الحرمين الشريفين التعليم بشكل غير مسبوق ليس في المملكة فحسب ولكن خارجها أيضاً. واستفادت القطاعات الأخرى كالصحة والمواصلات وغيرها بطرق مختلفة.

وبكل شفافية يمكن القول إن انعكاس الميزانية على الوطن والخدمات كان واضحاً من حيث الكم أكثر من الكيف، فلو أخذنا الجامعات مثلاً نجدنا أنشانا العديد من الجامعات وشيدنا مبانيها في كل مكان وعلى أحدث طرز في الوقت الذي تعاني فيه الجامعات الأساسية الكبرى لدينا من نقص واضح في أعداد أعضاء هيئة التدريس. ونقص أعضاء هيئة التدريس ظاهرة عامة لا تقتصر على المملكة، بل تتجاوزها للعالم العربي، بل في العالم أجمع نتيجة لتوسع كثير من الدول في هذا المجال، ولا يعرف الكاتب كيف سيتم التغلب على هذه المعضلة. كما قد بعثت الدولة عبر التعليم العالي ما يزيد عن مئة ألف طالب لجامعات في بلدان مختلفة، ولكن العدد الكبير للطلاب صعّب من عملية الإشراف الدقيق عليهم والاختيار النوعي للجامعات التي ابتعثوا إليها، فبعضها كليات مجتمع، وهي وإن وجدت في أمريكا وكندا، وبريطانيا، لا تختلف كثيراً من حيث المستوى عن جامعاتنا وكلياتنا. كما أن نظام البعثات للدرجات العليا من خلال الجامعات والكليات يفتقر للإشراف والمتابعة هو الآخر، خصوصاً في ظل تفشي ظاهرة خطيرة في بعض جامعات الغرب وهي التساهل المفرط مع طلاب بعض الدول وعلى وجه الخصوص طلاب الدول الخليجية، وأصبحنا نفاجأ بمستوى متدن ملحوظ لبعض خريجي الماجستير والدكتوراه مؤخراً، مع اضطرار الجامعات لقبولهم في سلك التدريس لسد النقص الكبير.

والأمر ذاته ينطبّق على التعليم العام فقد رصدت الدولة مثلاً مبالغ كبيرة لتطوير المناهج الدراسية وكلّفت بها لجاناً ومؤسسات ولكن ذلك لم ينعكس نوعياً على هذه المقررات. وما نشاهده من المقررات المطورة هو نفس المقررات القديمة في ثياب جديدة، وهو تطور لم يكن للأسف بشكل مدروس ويتم أحياناً وفق أهواء معيّنة وليس وفق معايير علمية تربوية. فالأداء هو ذاته وبدلاً من أن يكلّف مبالغ معقولة أصبح يكلّف مبالغ مهولة.

وفي مجالات أخرى كالصحة والخدمات والمواصلات كانت هناك ميزانيات ومشاريع ولكن لم تكن هناك وظائف مخصصة تدعم كوادر هذه الخدمات وتغطي هذه التوسعات. كما لوحظت بشكل عام وفي معظم المؤسسات الحكومية مظاهر للبذخ الإداري غير مسبوقة من تغيير أثاث مقار الوزارات والإدارات بأفخم الأثاث بدون حاجة لذلك، وبدون ضوابط، وكثرت الانتدابات والزيارات وغيرها من المصاريف الإدارية غير الضرورية. وربما يكون أهم مجالات الهدر المالي الأجهزة الإلكترونية والشبكات الحاسوبية، التي أصبحت تراها تسطع في كل مكان من المباني الحكومية لحاجة وغير حاجة، أو بدون وظيفة محددة، أي أنها أصبحت ديكوراً مؤسسياً يهدف لإيهام العامة بتطور المؤسسة، وانتقالها كما يردد اليوم في كل مكان لمجتمع المعرفة. كما زادت لوحات الإعلانات والدعايات سواء في الطرق أو الصحف. وقد لجأت بعض المؤسسات لمحاولة إرغام منسوبيها على توظيف أجهزة حاسوبية ونظم أخرى محوسبة تسببت في كثير من الأحيان في تعطيل عملهم، لكثرة الأعطال وبطء الصيانة، وهي في بعض الأحيان لا حاجة لها وجلبت بناء على تصورات رومانسية غير واقعية، والمستفيد الأول والأخير منها هو الجهات المصنعة، وطبقة المستوردين لها. ولو دققت أجهزة الرقابة في عملية اقتناء هذه الأجهزة لوجدت أن كلفتها على الأجهزة الحكومية هي أضعاف قيمتها لو وفرت شخصياً، مع أن المفترض هو العكس.

مجالات هدر المال العام الأخرى هي الندوات والمؤتمرات واللجان، والاجتماعات التي تهدر المال العام على الفنادق والموائد إلخ. والصرف على المؤتمرات ليس خطأ في حد ذاته، وكذلك إكرام الضيوف، ولكن عقد المؤتمرات لإكرام العاملين عليها، وبدون حاجة فعلية يشكل هدر للمال العام. وقد لا تكون الأمور بهذه القتامة ولكن الحفاظ على المال العام يتطلب إنفاقه بنوع من الترشيد لا التبذير.

أما فيما يتعلّق بالميزانية الجديدة فكلنا يأمل أن يكون للمواطن حصة مباشرة فيها بدعم المشاريع الإنتاجية التي توظّف الشباب وليس المشاريع الإنشائية والاستهلاكية فقط. ولو نظرنا لاقتصادنا في الخمسين عاماً الأخيرة لوجدنا أن المشاريع التي شكلت مشاركة بين الحكومة والقطاع الخاص كالصناعات البيتروكيماوية، والكهرباء، والاتصالات، هي الأكثر توظيفاً للشباب. كما أنه يمكن أن تكون للدولة، إذا أردت دعم السعودة اشتراطات لترسية المشاريع بتوظيف الشباب السعودي، فلا يعقل أن يكون لدينا مشاريع إنشائية فلكية بمئات مليارات الريالات، ويكون لدينا في الوقت ذاته بطالة بين المهندسين المعماريين والإنشائيين على سبيل المثال. وهذه المشاريع، وغيرها من المشاريع الكبيرة، ذات قيمة تعليمية، وتدريبية وخبراتية لا تقدّر بثمن، وقد تفوق قيمتها الفعلية قيمة التعليم الرسمي كونها جزءاً من التعليم الواقعي، ولكن من يستفيد منها وللأسف شباب وافد، ولذلك فهي خبرات مهاجرة بأموال سعودية.

وليس هناك أي مبرر لئلا يستفيد المواطن مباشرة من خيرات بلاده على شكل تحسين الرواتب، وبدلات السكن، ومعاشات التقاعد، والتأمين الصحي، ودعم سوق المال المتوفى دماغياً لسنوات لإخراجه من غرفة العناية المركزة. فواقع المواطن السعودي مقارنة بالدول المجاورة لا يسر، ولاسيما أن نسبة التضخم آخذة في التصاعد بشكل يعاكس توقعات بعض المسؤولين بانخفاضها. فزيادة الرواتب هي العلاج الذي تتبناه معظم الدول لعلاج انعكاس التضخم وهبوط القيمة الشرائية للعملة على مستوى معيشة المواطنين. فمنذ سنوات عديدة ونحن نسمع توقعات بانخفاض التضخم في بداية العام وارتفاعه فعلياً في وسط ونهاية العام.

نتمنى أن يكون أسلوب التعامل مع ميزانية هذا العام أسلوب تدبير وألا تترك فرصة للتبذير, ونتمنى أن تطعم الدولة أجهزتها بدماء وطنية جديدة بدلاً من الأجهزة الإدارية المتقادمة التي تعوّدت على الأساليب القديمة في التعامل مع المال العام، فمن شب على شيء شاب عليه. والله من وراء القصد.

latifmohammed@hotmail.com
Twitter @drmalabdullatif
 

المال العام بين التدبير والتبذير
د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة