ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Sunday 15/01/2012/2012 Issue 14353

 14353 الأحد 21 صفر 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

كان ذلك في زمن ازدهار الفنون وحيث كان (السيد الشعر) يتربع فوق عرش المشهد الثقافي المهيب وبعدما امتلأت الصالة الهائلة بالجمهور الكثيف الذي امتدت كثافته لتشمل مدرجات الملعب البلدي للمدينة.

دخل من خلف الستارة الشاعر العالمي الكبير (يفتشنكو) وبعدما حيَّا جمهوره بانحناءة مهذَّبة رفع رأسه المكلّل بالبياض واقترب من المنصة ثم شرع يهدر بأهم قصائده الوطنية التي تدعو إلى التشبث بالاتحاد لدحر القوى التي تريد الهيمنة على بلاد الآخرين وبلاده أيضاً، إذ سرعان ما تحمّس الجمهور وأخذ يُنشد القصيدة معه بصوت عال غطى على صوته الجمهوري الأجش الذي كاد أن يحطّم الميكرفون، ومن خلال ارتفاع (الصوت الجماعي) للجمهور المتحمّس أخذ الشاعر ينسحب شيئاً فشيئاً إلى الخلف باتجاه الستارة وهو لم يزل يُنشد مع الجمهور إلى أن كاد أن يتوارى تماماً عن الأنظار وهناك بالضبط سحب كرسياً وجلس عليه تاركاً الجمهور يكمل القصيدة بدلاً عنه.

وحينما انتبه الجمهور إلى نفسه بعد نشوة الشعر التي حلّقت به إلى مدى لم يعد يرى فيه الشاعر جسداً، بل أحسّه (روحاً) تندغم مع الروح الجمعية للجمهور (الذي وحّدته هذه القصيدة الفذّة المدهشة).. أقول آنذاك وما إن فرغ الجمهور من إنشاد القصيدة كلها وتوقف ليستمع إلى قصيدة أخرى كان الشاعر يفتشنكو قد اختفى خلف الستارة تماماً. ولما هدأت العاصفة الصوتية حدّق الجمهور بالمنصة وأخذ يطالب الشاعر بقصيدة أخرى آنذاك خرج يفتشنكو من خلف الستارة وانحنى للجمهور مرة أخرى وقال بكل محبة وتواضع (أنتم الشاعر أيها الجمهور، وأنا الجمهور الوحيد) الذي انتشى بتعدد طبقات الصوت في قراءة قصيدة مبهرة كأنها لم تكن له ثم انحنى مرة أخرى وودع الجمهور وأنهى الأمسية!

* * *

تذكّرت هذا المشهد (الإدهاشي) الرائع الذي يعود إلى أواخر ستينات القرن الماضي، حيث كان للشعر سطوته وللشاعر مهابته التي قد تصل لدى (بعض) الشعوب إلى مراحل التقديس، أما اليوم وفي زمن امتهان الشعر ومهانة الشاعر فقد رأيت المشهد مقلوباً ومنكفئاً ومنكباً على وجهه وذلك لـ(استسهال) الشعر (وسهال) الشعراء مما جعل الجمهور كله (يقرض) الشعر ويلقيه (كل على هواه) مما شكَّل جوقة ناشزة لا تشبه إلا سوق بيع البهائم مع احترامي لها وعدم احترامي لمن نصَّب نفسه دلالاً ومن (عندياته) عليها، أما الشاعر الحقيقي فقد جلس وحيداً في الصالة المخصصة للجمهور ليشهد هذا المسلخ الفظيع لأجمل الفنون والذي يقوم به (جزارون) لا يهمهم نوعية الضحية، بل يهمهم سلخها وبيع جلدها للدباغ!

 

هذرلوجيا
جمهور يُلقي وشاعر يتلقى
سليمان الفليح

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة