ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Monday 23/01/2012/2012 Issue 14361

 14361 الأثنين 29 صفر 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

* يتْرى على سمعي سؤال يطرحه في عَجبٍ مَنْ لا يعرف عني سوى أنني نتاج بيئتين مختلفتين، يمثّلْهما سيدي الوالد النجدي وسيدتي الوالدة العسيرية، رحمهما الله، كلُّ منهما كان مرتبطاً بجذوره الثقافية والتراثية حتى النخاع، ويرغب طارحُ السؤال معرفةَ كيف تشكّلت شخصيتي عبر السنين في ظل ذلك التجاذب الثقافي الاجتماعي بين قطبيْ حياتي، أبي وأمي، رحمهما الله.

* كنتُ أحياناً أتحاشَى الردَّ على سؤال كهذا، لأنه يغرقني بفيض من الذكريات، منها ما يفرح ومنها ما يترح، ثم أتساءل بدوري مع مَنْ سأل ومَنْ لم يسألْ: كيف يتسنىَّ لي الآن، بعد أن ولجتُ على استحياء إلى عقدي السادس من العمر، أن احتفظَ بهذا المخزون الحميم من الذكريات التي لا تفارق شمسُها أفق الوعي الحاضر، بل تمضي في التمرُّد على النسيان، رغم أنني في سياقي الحياتي الآنيّ.. بدأتُ أشعر بعُقْدةِ الذنبِ من نِسْيان أمورٍ معاصرة، وقد أعزُو ذلك معتذراً إلى (حُكْم السنّ) وحِكْمته! ولِمَ لا فنسيانُ بعض المواقفِ من عثَراتِ النفس وكَبَواتِ الناس.. حكمةٌ لا نقمة!

* حاولتُ مرةً أن أردَّ على السؤالِ سالفِ الذكر فقُلت إنني لا أدري كيف تشكَّلتُ على النحو الذي طرَحَه السؤال، وأزعمُ أنّ (فقهاء) الجينات البشرية هم المؤَهَّلون للردّ عليه، لكن الذي أعلمه يقيناً أن الله شاء أن يَقْترنَ سيدي الوالد بسيدتي الوالدة طيب الله ثراهما، وأن أكون أنا ثمرتَهما الوحيدةَ التي بقيتْ على قيد الحياة بعد وفاة بكرهما شقيقي عبدالعزيز، الذي مات في حضن أمه قبل الفطام، متأثّراً بمرض فُجَائيّ لم يمهله سوى ساعات!

* لم أعشْ مع أمي وأبي زَمناً طويلاً، إذْ افترقا وأنا في سنّ مبكرة من طفولتي، فتفرقَتَّ بنا السُّبل، رحلَ سيدي الوالد إلى جازان لممارسة تجارته هناك، فيما اقترنتْ سيدتي الوالدة برجل من أفاضل مدينة أبها، وكنتُ سعيداً بذلك القِرَان، كْيلا يبقَى حضُوري معها أو غيَابي عنها شُغْلاً شَاغِلاً لها، فيصْرفَ عنها نعيمَ السعادة، حتى وإنْ اكتوْيتُ أنا بجَمْرِ الشقاء من أجلها حُبًّا لها!

* ولذا، يمكن القول إنَّ نشْأَتي الطفولية حتى سنّ الثامنة تقريباً في (حضانة) جدي لأمي رحمهما الله، وفي مزرعته الريفية القريبة من مدينة أبها كانت نشأةً (عسيرية) خالصة , لهجةً ولباساً وسلوكاً، مارست خلالها العديدَ من طقوس الفلاحة ورعْي الأغنام، ولم أشهدْ من الدراسة الابتدائية إلاَّ اللَّممَ قبل أن (أهجرَها) متأثََّراً بطقوس (البيئة السادية) في تلك المدرسة.. التي كانت تنطلق من مقولة تُجلُّ المدرسَ إجلالاً يمنحُه سلطةَ القمع باسم التربية، ليفوزَ هو منْفَرداً (بلحم) التلميذ، ويدَعَ (العظامَ) لأهله!

* وفي تلك البيئة الزراعية الصارمة أكملتُ جزءاً طويلاً من مشوار الطفولة يبدأُ نهاره قبيْل مولد الشمس وُيغمض جفنيْه بُعيْد غروبها، يلي ذلك سُباتٌ طويل حتى الفجر التالي، لنستأنفَ (الركض) مجدّداً! تعلمتُ في ظل تلك البيئة الجدَّ ولا شيءَ سواه، وكانت لحظاتُ اللَّهو محدودةً، كنتُ أعتمد على نفسي بعد الله (مقتدياً) بالكبار في معظم الأمور جِدًّا ولهْوًا، وأعتقد أن شخصيتي تشكّلت من خلال ذلك النسيج العجيب، ولستُ اليوم نادماً على ذلك ولا كارهاً، فقد تعلمتُ من خلاله الكثيرَ، ومَنْ يدري لو نشأتُ في بيئة مرفّهة كما يفعل كثيرون من أفراد جيلنا الحاضر، إذن، لكانت (خريطة) شخصيتي وسلوكي مختلفة عماّ آلتْ إليه اليوم!

* اليوم.. أنام بفضل الله قَريرَ العين سعيداً بما كان من أمري.. وما آل إليه حالي في أمسي ويومي، شاكراً لله أنعمَه، ما ظهر منها وما بطن، ومردَّداً بإصرار، همْساً وجَهْراً، هذا الدعاءَ: (الحمد لله من قبل ومن بعد)!

 

الرئة الثالثة
إطلالة شخصية سريعة على الماضي
عبد الرحمن بن محمد السدحان

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة