ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Monday 23/01/2012/2012 Issue 14361

 14361 الأثنين 29 صفر 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

-1-

هذا العنوان الباكي مطلع قصيدة تتشكَّل راعفة الحروف والكلمات. في ريعان شبابي - قبل نصف قرن - سمعت وقرأت عن بلاد الرافدين، كما سمع وقرأ كثير من أبناء جيلي؛ أرض خصب عظيم ورخاء عميم، وموطن علم راسخ الجذور

وإبداع فائق الروعة وارف الأغصان. كان خصبها ممتداً لأهلها فسيح الرحاب، وكان رخاؤها مما يشد غيرهم إليه الركاب. وكان علماؤها في مراكز عطائهم العلمي مقصد الطلاب من قاصي البلدان ودانيها، كما كان فيض مبدعيها؛ فناً وشعراً، منهل نشوة وإمتاع.

على أن طموح ذلك الجيل ما كان يعرف للحدود مدى. فلم يكن ليقنع بما تَحقَّق - وما كان يَتحقَّق - على أيدي قادة العراق حينذاك؛ وفي طليعتهم الداهية نوري السعيد، من إنجازات تنموية عبر مجلس الإعمار وغيره من المؤسسات الحكومية الأخرى، ومن ترسيخ لوحدة أقاليم ذلك الوطن. وكان الذنب الأكبر لأولئك القادة عدم انسجام سياستهم مع التيار العروبي المتوهج في خمسينيات القرن الماضي. ولذلك كان الجيل يتطلَّع إلى زوال حكمهم. ولم أكن إلا من غُزية ذلك الجيل عندما قلت، عام 1957م، في أبيات إحدى القصائد عن الشعب العراقي:

لم يثنه عن عزمه وثباته

بطش يصب لهيبه الزعماء

حُرٌّ.. وكيد الظالمين - وإن يكن

من نسج أرباب الدهاء - هباء

حُرٌّ.. ورايات التحرُّر رفرفت

واريَّنت لقدومها الأرجاء

ولما وقعت الواقعة، وأطيح بذلك العهد، كنت من الذين انتشوا فرحاً بما حدث. فكتبت قصيدة بعنوان «مولد الصباح». ومن أبياتها:

في حمى الرافدين أشرق عيد

فهنيئاً بصبح هذا العيد

عيد شعب مضى يحث خطاه

نحو أهدافه بعزم وطيد

ومنها:

هكذا سنة الحياة

فلا شيء بِمُوهٍ

جماح شعب مريد

وإذا الشعب رام أن يقهر

الذل ويقضي

على حياة القيود

باركته السماء في مبتغاه

وتَولَّت خطاه بالتسديد

لكن.. ما الذي جرى؟

لم يمر وقت قصير حتى وجدتني أقول ما سبق أن قاله الشاعر المكتوي بما رآه في زمنه:

رُبَّ يوم بكيت منه فلما

صرت في غيره بكيت عليه

فلقد تفرعن المتبنُّون للمذهب الشيوعي في بلاد الرافدين، وانتكست الزراعة التي كانت مزدهرة فيه، حتى وصل وضعها إلى أسوأ حال. وكان أن حلَّ الرعب محل الأمن، وبات سحل المعارضين لذلك التفرعن من الأمور المألوفة في الشوارع. وكان ممن يَحثُّون على ارتكاب ذلك السحل شعراء بارزون كبار؛ مثل الجواهري، الذي كان يحرِّض عبدالكريم قاسم على أن يشد الحبال على رقاب أولئك المعارضين، ومحمد صالح بحر العلوم، الذي كان يتوعَّد، ويعد، من قاعة محكمة المهداوي؛ قائلاً:

اصبر على رأس فرعون تجده غداً

بحبل جُلَّق أو بغداد منسحبا

والبياتي، الذي كان يقول:

سنجعل من جماجمهم منافض للسجاير

ثم كان ما كان من جرائم بلغت أقصى بشاعتها بدفن الناس أحياء في كركوك. وعندما تخلَّص عبدالكريم قاسم - إلى حَدٍّ ما - من هيمنة الشيوعيين، سنة 1962م، على مفاصل السلطة كتبت قصيدة من أبياتها:

هي ساحتي ما زال يغمرها الأسى

وهُمُ تتار الأمس لم يَتبدَّلوا

بغداد ما برحت تَجرُّ طيوفها

حُرٌّ يمُزَّق أو شهيد يسحل

مهما تناسيت المجازر والدما

كركوك لن تنساها والموصل

دار السلام وما تَغيَّر فوقها

إلا الأساليب التي تَتشكَّل

بغص التحرُّر مالك حكامها

لن يتركوا طبعاً ولن يستبدلوا

ومضى قاسم وعهده. وكاد الشعب العراقي يتنفس الصعداء عندما وصل إلى رئاسة وزرائه عبدالرحمن البزاز. لكن لم يمر إلا وقت قصير حتى تدهورت الأمور، ووصل إلى سُدَّة الحكم من نكب العراق وأُمَّته معه بقادسيته، ثم بأم معاركه. وذهب كما ذهب من كانوا قبله، لكنه ذهب بيد أمريكية متصهينة قذرة منسِّقة مع يد فارسية حاقدة.

ومرة أخرى ماذا جرى؟

لقد ذهب دكتاتور بكى الكثيرون منه ومن عهده الاستبدادي؛ وذلك باحتلال أمريكي متصهين لبلاد الرافدين حَرَّض عليه وتعاون معه أعداء أُمَّتنا من داخلها ومن خارجها. وكان من نتائج ذلك الاحتلال أن نهب الكثير من تراث العراق الثمين وثروته الطائلة. والأسوأ من ذلك أن قتل مئات الآلاف من العراقيين، الذين في طليعتهم علماء ماهرون وطيارون أكفاء. أما الأشد سوءاً وعاقبة فهو أن المحتل المتصهين نجح - بخبثه وحقده - في إذكاء نار الفتنة الطائفية والعرقية المتشتَّتة للمجتمع بما سَنَّه من قوانين وأنظمة لقيت لدى من لا يُكنُّون إلا حقداً وضغينة للعراق؛ بشراً وحضارة. ولم يسحب المحتل قواته العسكرية في آخر العام المنصرم إلا وقد اطمأن إلى أنه أنجز المهمَّة التدميرية، التي ارتكب احتلاله العدواني من أجل إنجازها خدمة للكيان الصهيوني في المقام الأول. ومن علامات إنجاز تلك المهمَّة القذرة أن:

سُلِّمت بغداد في طَبقٍ

لعلوجِ الحقدِ من ذهبِ

وتَلظَّى في مرابعها

مستطير الرعب من لهبِ

وجنت صهيون ما حلمت

فيه من مُستعذَب الأربِ

وفي الآونة الأخيرة تَجلَّت صورة من صور إحكام الهيمنة الصفوية البشعة المتمثِّلة في السعي الحثيث للانفراد بمقاليد الأمور في العراق، وإبعاد كل وجه يُشمُّ بأن له نفساً عروبياً أو سُنِّيا. بالجَدارةِ البكاء على دجلة الخير؛ رمزاً من رموز وطن كانت له حضارة عريقة، وكانت فئات شعبه وطوائفه تعيش متوحِّدة متناغمة في البأساء والضرَّاء وفي المسرَّات والهناء!

 

أدجلة الخير أبكي أم صبا بردى؟
د.عبد الله الصالح العثيمين

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة