- لا ينكر مخلوق عاقل فضل الجهود التي بذلت في هذا البلد الأمين عبر نصف قرن من الزمن بحثاً من معادلة ملائمة لتشخيص أدواء الإدارة وتنمية قدراتها وإكسابها مهارات التعرف على طموحات التنمية وغاياتها وترجمتها إلى أفعال وإنجازات!
***
- وقد انطلقت هذه الجهود بدءاً بمسلَّمة تقول إنه لا سبيل لتحقيق أي معدل مرْض ودائم للتنمية إذا كان الجهاز الإداري المعني بتحقيقها متخلفاً، فكان لا بد أن تتزامن جهود التنمية بأبعادها ومضامينها الواسعة، مع محاولات طموحة لإصلاح وتقويم الأجهزة الإدارية في بلادنا.
***
- وهكذا نشأ ما عُرف منذ مطلع الثمانينات هجرياً ببرنامج الإصلاح الإداري، الذي استطاع عبر السنين أن يحقق مكاسب بارزة، كان من أهمها إنشاء معهد الإدارة العامة الذي يُعتبر بصدق الابن البار للإصلاح الإداري، وهو بارٌ حقاً، لأنه أسهم وما برح يفعل بقدرٍ كبير وحضور لافت في تنمية وتنويع مكونات القاعدة البشرية للعمالة الحكومية، كيفاً وعدداً.
***
- وكما هو معروف للكثيرين ممن عاصروا جهود الإصلاح الإداري أو قرأوا عنها في آثارها المكتوبة، فقد حاولت تلك الجهود تقويم الأطر التنظيمية لأجهزة الإدارة الحكومية وتقنين سلوكها الرسمي من خلال الأنظمة واللوائح، وأدلة الإجراءات ونحو ذلك.
***
- وفي مسار مواز لما ذُكر، اهتمت تلك الجهود بالجوانب الإجرائية في كثير من الوزارات والمؤسسات والهيئات، فسنَّت خطوات قُصد بها تبسيط إجراءاتها، وتطوير مسارها على نحو يحقق شيئا من التوفير في الجهد والوقت والمال، ولم يغب عن بال المهتمين ببرنامج الإصلاح الإداري إمكانية الاستفادة من منجزات التقنية الحديثة لتحقيق قدر أفضل من الفعالية والترشيد للجهد الإنساني.
***
- وتعليقاً على وقائع تلك المرحلة المهمة من السيرة الإدارية لبلادنا، أورد الملاحظات التالية:
أولاً: أن هذه الجهود استقطبت حشداً جيداً من الخبرات الوطنية المؤهلة، عمل بعضها جنباً إلى جنب مع الخبرات الوافدة ممثلة في (مؤسسة فورد) الأمريكية، بفعالياتها المختلفة، ثم تواصل الجهد بعد رحيل مؤسسة فورد في مطلع العقد السابع من القرن الميلادي الماضي ليشمل العديد من الوزارات والهيئات المستقلة والمؤسسات.
ثانياً: أن ما تم إنجازه ضمن إطار برنامج الإصلاح الإداري في المملكة في الفترة الماضية، يدعو إلى الثقة بقدوة الجهاز البيروقراطي في بلادنا على استيعاب الكثير من مضامين الإدارة الحديثة، أصولاً ووسائل وإجراءات، والدليل على ذلك ماثِلٌ فيما تحقق ويتحقق من إنجازات تنموية مشهودة ترتبط برفاه المواطن وسعادته.
***
ثالثاً: أن ما عنته الفقرة السابقة لا يعني بالضرورة الاعتذار لأي خطأ اجتهادي يواكب تنفيذ بعض طموحات التنمية، مهما قل حجمه أو زاد، غير أن العبرة ليست في محاولة تجنب الخطأ بدرجة أساسية، فالكمال لرب الكون وحده، ومحاولة كهذه قد تُفضي إلى تقليص الجهد أو تحجيمه أو حتى إلغائه مخافة التعرض للخطأ، وهذا في نظر العاقل البصير أشد خطراً من نشوء الخطأ نفسه، ويُفترض هنا فلسفياً، أن أي عمل تنموي يُؤتى في الأصل بحسن نية تلمساً للبناء، لكن الجهد لتحقيقه غير معصوم من الخطأ في كل الأحوال إما لإسراف في تكلفته المالية أو البشرية أو الزمنية مثلاً، أو لقصور في بعض جوانبه الإنشائية أو الفنية ونحو ذلك، لكنه رغم كل شيء، يظل عملاً ذا بداية وغاية، وخطأه أو صوابه دليل على وجوده، وهو في أضعف تقدير، خيرٌ من غيابه على الإطلاق!
