ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Tuesday 31/01/2012/2012 Issue 14369

 14369 الثلاثاء 08 ربيع الأول 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

اسمحوا لي أنْ أصوغ هذه الرسالة بحروف من ألمي وحزني، وكلمات من لوعتي وهمِّي، وأنْ أكتبها بريشة حزينة باكية، ومداد من دموعي الجارية، ممزوجة بشظايا نفسي الشاكية.

أرجو أنْ تصبروا على قراءة رسالتي هذه، فهي شكوى مجروح القلب، محطَّم النفس، مهشَّم الإحساس، وأرجو أن تستوعبوا رسالتي بأذهان متفتحهْ، وأنْ تستقبلوها بصدور منشرحهْ، لتدركوا مراميها، ومعانيها، وتفهموا أبعادَها، وتمنحوني من اهتمامكم بها ما يمكن أن أطمئنَّ به إليكم، وأُحسن به الظنَّ فيكم.

أنا منزلٌ حديث البناء، جميل التصميم، أنتمي إلى فئة المباني صغيرة الحجم، أنيقة الشكل، أتوسَّط حيَّاً من أحياء مدينة عربية أصيلة، مترامية الأطراف، يسكنها مئات الآلاف من الحضر والبدو، والعرب والعجم، كلُّهم يركضون في شوارعها الفسيحة صباح مساء، يدورون في فلك حياة معاصرة ينشغل فيها الناس بمظاهرهم وأشكالهم، و»كماليات حياتهم، عن كثير من واجباتهم وآدابهم وأخلاقهم.

أنا منزل حديث البناء، أعلو ظهر الأرض بطابقين ونصف طابق، ما زلت أشعر بمكانتي «النفسية» بين كثير من المنازل التي تحيط بي، أنظر إليها بعين الواثق بنفسه، الذي يشعر بأنَّه شامةٌ في موقعه؛ صحيح أن بعض المنازل التي بُنيت بعدي قد أثارت غيرتي، ولكنني -مع ذلك- ما زلت معجباً بنفسي، مطمئناً إلى ما أولاني إيَّاه مَنْ بناني من العناية الفائقة تخطيطاً وتصميماً وتنفيذاً!

أنا منزل حديث البناء، أبلغ من العمر عشر سنوات، نشأت فيها وترعرعتُ على الحب والوئام، لأنَّ صاحبي وأسرته الكريمة أنشأوني على ذلك، وملأوا كياني بالسعادة والهناء، والحب والصفاء، وكيف لا يكون ذلك وقد بدأوا حياتهم فيَّ بعد اكتمالي بتلاوة القرآن الكريم، ولقاءات المحبة والتآلف، وإقامة شعائر الدين من صلاة وصيام وزكاة، وفتحوا أمامي بوَّابات فسيحة من حسن العشرة، وغمروني بما يتبادلون من عبارات الحبِّ والوُدِّ والوئام؟؟

سنوات عشر حسانٌ مورقات باسمات، لم تَشُبْها شائبةٌ من الشقاق والخصام، إلا ما لا بدَّ منه مما لا يخرم حُبَّاً، ولا ينقص عَهْداً، ثم كان الطوفانُ، وأيُّ طوفان؟؟

بدأت أيُّها الأحبّة أشعر بخلل في بناء الأسرة المباركة، واهتزاز عنيف في بناء ما كان بينها من مودة ومحبة وتآلف ووئام.

بدأَتْ مأساتي منذ أن انتشَرَتْ في جنباتي شاشات تلفاز كبيرة، منها ما هو في مجلس العائلة العام، ومنها ما هو في صالة الطعام ومنها ما هو في غُرَف نوم الأبوين والأولاد، ومنها ما هو في غرفة الخادمة، ومنها ما هو في الملحق الخارجي.. وزادت مأساتي حين وضعوا على سطحي الذي كان مفتوحاً للهواء الطلق طبقاً كبيراً، أكاد أجزم أنه أكبر طبق هوائي وضع على سطح منزل مثلي، ثم تعمَّقت المأساة حين فتحوا للقنوات العالمية فضائي النقيِّ، وصدَّعوا رأسي بما لم أكن أتوقَّع من الأغاني الماجنة، والأفلام الهابطة، والبراج الصاخبة، ثم اشتعلت جوانحي ناراً حين تفرَّق ذلك الجمع المبارك، فأصبح كل واحد من الأسرة الكريمة، منعزلاً في ناحية، معه جهاز جوَّاله، وحاسوبه، وشاشته التي تحتلُّ قدراً كبيراً من جدار غرفته، فما عدت أرى تلك اللقاءات الأسرية الرائعة إلا لمِاماً، وما عدت أسمع في جنباتي إلا نزاعاً وخصاماً، وما عدت أرى ذلك الرجل الهادئ الوقور الذي أحسن تخطيطي وبنائي إلا منعزلاً في الملحق الخارجي، والمرأة الهادئة العطوفة الحنونة إلا منعزلةً في غرفتها بعيدة الروح والقلب عن أبنائها وبناتها، وما عدت أرى الأولاد إلا في حالة من الشتات تُدمي القلب الغيور، وما عُدْتُ أرى الخادمة إلا صاحبة الأمر والنهي في هذه العائلة الممزَّقة.

أوَّاه أيّها الأحبة، كم تمنَّيت أن يكون لنا نحن «الجمادات» ألسنة نتكلَّم بها، لأقول لكل فرد من أفراد أسرتي الممزَّقة: إني حزين عليكم، إني أراكم تنحرفون، كلا والله، بل تنجرفون، إنكم تلقون بأنفسكم في خندق الشقاء، إنكم الآن تبتعدون عن معنى «الأسرة الكريمة المستقرة» مسافات طوالاً لو كنتم تبصرون.

أنا منزل حديثُ البناء، أنتمي إلى طائفة الجمادات، لا أتجاوز هذا في ميزانكم، ولكنني أشعر بالحسرة الكبيرة، وأنا أرى هذا التمزُّق العائلي يحدث بصورة مفزعة على مرأى جدراني وأسقفي وأبوابي وأثاثي وأفنيتي، وسطحي الذي تحتلُّه الأطباق المعتمة.

إنها شكوى الحزين الذي يبحث عن يدٍ حانية، فهل من مجيب؟

إشارة:

عقولُ بعضِ رجالِ الأمة انشطرتْ

شطرين فالياء في ميزانها باءُ

 

دفق قلم
شكوى منزل حزين
د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة