ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Tuesday 28/02/2012/2012 Issue 14397

 14397 الثلاثاء 06 ربيع الثاني 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

حين تقضي في الفضاء زهاء سبع ساعات ثقال، بعلو مرتفع، وسرعة فائقة، في الطريق إلى بلد قصي كالمغرب العربي، يتبادر إلى ذهنك أبطال مغاوير، وصلوا إلى تخوم [أوروبا] على صهوات الخيل والبغال والحمير، وسطروا ملحمة النصر التي أذهلت الرحالة والمستشرقين،

وأرجعت إليهم أبصارهم خاسئة وهي حسيرة، فيما لم تحرك تلك المعجزات الباهرات شعرة في مفارق الشاردين من شبابنا المنبهرين ببريق المدنية الزائفة. ومن ذا الذي يتصور تلك العزمات الأبية التي حملت أعراب الجزيرة العربية على ركوب البحر، وذرع الفيافي والقفار، واستمراء المغامرات المحفوفة بالمخاطر، في سبيل هداية البشرية، وإبلاغهم صوت الرحمة المسداة، والنعمة المهداة، ورد البشرية التائهة في تنائف العماية والغواية إلى سبيل الرشاد، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:- [بلغوا عني ولو آية] وقوله: [لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم].

وما من غادين أو رائحين إلا وتتفرق بهم السبل، على حد:- [دخلنا الكوفة بليل] فمن ضالع في ملذاته، مسرف في شهواته، ومن متبتل في محطات التاريخ المضيء منها والمعتم، يفكر في قوة الإيمان التي حدت بالحفاة إلى انتعال الصحراء وافتراش الغبراء لإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، ومتى حطت رحال الوافدين المجهدين في تلك الأنحاء، تبدى لهم الفردوس المفقود، وسمعوا هاتفا يتمتم بكلمات العتاب واللوم، وكأنه الشاعر الجريح الذي صاح بقومه:- [أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا]. إن ضياع الأندلس لم يتم بين عشية وضحاها، لقد مرت به فتن كقطع الليل المظلم، وصدَّعته خلافات وهمية، إنسابت من أثداء الشهوات والأهواء، ولما نسل العدو من الثغرات الضعيفة، لم يبادر المختصمون إلى نبذ الفرقة، بل توسل البعض منهم به ليقضي على خصمه، وهو في الحقيقة إنما يقضي على نفسه، وما أُكِلَ الثوران الأحْمر والأسود إلا بعد ما أكل الثور الأبيض.. ومما ينسب إلى علي -كرم الله وجهه- قوله:- [أكلت يوم أكل الثور الأبيض].

وأخرى غير التذكر والتحسر من التداعيات الممتعة أو المفيدة، ذلكم هي الخوف الذي ينتاب البعض منا، عند ركوب الطائرة، أو عند الدخول في المصعد، أو الصعود إلى قمم الجبال وشواهق الأبراج، فكل واحد منا لديه [فوبيا] من شيء ما، مغروسة في أعماقة، قد تنتابه حين يطل من مرتفع، أو يشاهد مخلوقاً غريباً، كالحشرات والهوام والزواحف، وذلك العارض من الأمراض النفسية غير المبررة وغير المعقولة. أما صاحبكم فأخوف ما يخاف منه «المصعد» إذ كلما دخلته مكرهاً مضطراً، أحبس أنفاسي وأغبط الذين يتحدثون داخله بكل عفوية.

الأغرب من هذا أن المصعد توقف ذات مرة، ومعي رجل وامرأتان، كانوا يتحدثون ويقهقهون، ولم يكترثوا، فيما انتابني خوف لو وزع على الناس لشملهم، كما تشمل الرحمة التي ألمت بالصحابي [ماعز] رضي الله عنه بعد رجمه كافة العصاة، لو رحموا. وبقدر خوفي من المصعد، أجد الراحة والطمأنينة في الطائرة، ولقد تقتضي الرحلة سبع ساعات أو تزيد، لا أشعر فيها بشيء، فكأنني في غرفة نومي، وكم ينتاب الخوف الشديد مَنْ حولي، ولو حدثتكم عن بعض المواقف، لأخذتكم الشفقة، واجتاحكم الإعجاب، ولكن ذلك يند بنا عما نود الإلمام به.

ومن باب التداعيات أنني كلما ركبت الطائرة أو تقصيت اختراعات العصر، من [كهرباء] و[كمبيوتر] ووسائل نقل واتصال واختراعات دقيقة، واكتشافات مذهلة في الآفاق والأنفس، زاد إيماني بخالق الكون ومدبره، فهذا الإنسان الضعيف الذي لا يطير كالصقور، ولا يغوص كالحيتان، ولا يسيخ في الأرض كالهوام، ولا يحتمل الحر ولا القر ولا الجوع ولا العطش كبعض الحيوانات، يخترع ما يسخر له ذلك كله، ومتى استغرقني التأمل في ملكوت السماوات والأرض، فررت إلى القرآن الكريم، ألتمس فيه دفء الإيمان، وأتقرى لفتاته الإعجازية المحيرة. ولاسيما أن الذي جاء به أعرابي أمي، لا يقرأ ولا يكتب، نسل من واد غير ذي زرع، وحين أمتطي صهوة الطائرة تتداعى بعض آيات الله، وأقطع بأنه كلام الله، نزل به الروح الأمين على قلب رسوله الكريم، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِين}، وقراءة الآيات المنطوية على أحكام أو إعجاز أو تذكير أو إخبار، تتجدد دلالاتها مع النوازل، حتى لقد تصورت النازلة كالقنبلة الضوئية، تضيء عتمة النصوص، وتفجر فيه كوامن الدلالات التي لم يكتشفها من سلف من العلماء، لعدم قيام الحاجة، وذلك تحقيقاً لتوجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم:- [فَرُبَّ مُبُلَّغٍ أوعى من سامع] فالتفضيل هنا مرتبط بقدرات غيرية، كالنوازل التي تكشف عن كوامن النص الدلالية، وعندي أن للسياق النصي مثلما للنازلة، ومن نكب عن دلالة السياق، فوت على نفسه إضاءة مهمة، فالكلمة والجملة والعبارة والأسلوب أبنية دلالية لاينفك منها إلا جاهل بعبقرية اللغة العربية، فقول الله تعالى:- {وَيَخْلُقُ ما لَا تَعْلَمُونَ} لمحة إعجازية، من حرم تأمل دلالتها حرم خيراً كثيراً. لكن دعني أدلك على فصاحة السياق التي لا تقل عن بيان البناء وفصاحة اللغة، من حيث دلالة الجمل فيها.

لقد فرق القرآن في السياق بين الأنعام ووظائفها والخيل والبغال والحمير ومهماتها. هذا الفصل يؤكد دلالة لا يتضمنها البنـاء الجملي.

فالله يقول:- وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ.. ، وتأمل قوله تعالى: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وقبل نهاية الشوط الدلالي قال:- وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وهنا لم يقل وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وهناك لم يقل وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، فالسياق تضمن حكماً وإعجازاً. فأما الحكم فعدم خلق الخيل والبغال والحمير للأكل، ومن ثم اختلفت المذاهب حول حِلِّ هذه الأصناف الثلاثة، والرجح عندي أنها غير مباحة الأكل، ولن أخوض في الناسخ والمنسوخ واختلاف العلماء حول نسخ السنة الصحيحة للقرآن، فذلك شأن المتخصصين، ولكني أريد التأكيد من خلال دلالة السياق، أنها خاصة للركوب والزينة. وأما الإعجاز ففي قوله:- ويَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فهو إذ خصها بالركوب على خلاف الأنعام التي يكون الركوب جزءاً من مهماتها، فقد جاء بهذه الجملة في سياقها الدلالي، وليس في سياقها اللغوي وحسب، وما نشاهده، ونستعمله في حلَّنا وترحالنا براً وجواً وبحراً من تلك المخلوقات التي لا نعلمها، فضلاً عمن نزل عليهم الذكر الحكيم، وهل أحد يتصور ما أنجزه المخترعون من وسائل اتصال ونقل، وذلك ملمح إعجازي لا يدركه إلا العالمون.

لقد ندت بي تلك التداعيات شيئاً قليلاً عما كنت أود الإشارة إليه في سفرنا هذا الذي لم نلق فيه نصباً، ولم يُنْسِنا الشيطان شيئاً مما رحلنا من أجله، والرحالة الذين رصدوا مشاهداتهم أمتعوا القراء، وحفظوا شطراً من التاريخ، وقدراً من الجغرافيا، وأمشاجاً من أدبيات الأسفار، أمتعت وأفادت، وأين نحن من [ابن بطوطة الطنجي - ت 779هـ] و[ابن جبير البلنسي - ت 614هـ] وعمدة الرحالين المعاصرين [محمد العبودي البردي]، لقد كانوا فيما يكتبون كجوف الفراء في جعبتهم كل الصيد، وما كنت متخذاً شيئاً من مناهجهم أو مقاصدهم، إذ ما أكتبه خواطر، نتوسل بها للفت الانتباه، وتوجيه الناشئة إلى تراث مجيد بأيدينا أضعناه، ولكل سفر تداعياته، ومن نفشت في ذاكرته آفة النسيان مرت به الذكريات كريح عقيم، ومن تدارك أمره، وقيد أوابده، وثنى عنان شوارده، بقيت للمنتفعين، ومنحته عمراً ثانياً:- [والذكر للإنسان عمر ثاني].

يتبع..

 

تداعيات الرحلة المغربية 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة