ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Sunday 18/03/2012/2012 Issue 14416

 14416 الأحد 25 ربيع الثاني 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

«مزمار الحي لا يطرب» عنوان لكل ما يحدث في عصر العولمة، والانفتاح، والثورة المعلوماتية! هذا العنوان، أو لنقل النتيجة، أو الحكم، توصلت إليه بعد أن تواترت الحوادث والوقائع التي بدأت تتناثر أمام ناظري أينما حللتُ،

وفي أي موقع وُجدت بين عرضاته في طول البلاد وعرضها. فها هو ابني الذي يمثل شريحة عريضة من أبناء هذا الوطن بدا لي أنه وأقرانه قارعون أجراساً تخطت أصواتها الحدود المعقولة، بل إنهم أضحوا يعلنون دون مواربة زهدهم في كل شأن من صنعنا، أو لنقل إنتاجنا المحلي في مختلف المحاور والمجالات.

ذات يوم جاءني ابني معلناً وبكل ثقة أن أكلنا لم يعد يطيب له مذاقه؛ فهو لا يرقى بحال لمذاق أكل هذه الدولة، أو تلك، وبخاصة تلك الأنواع التي صارت ماركة غذائية مسجلة، تجدها تقدَّم في سلسلة مطاعم انتشرت كالهشيم في جميع أصقاع العالم، ناهيك عن وجودها في كل ركن من أركان وطننا المترامي الأطراف. لا يهم القيمة الغذائية وانعكاسها على الصحة العامة، المهم أنني أريد - كما يقول لسان حال ابني وأقرانه من الجيل الحالي - أن آكل ما يتم التسويق له بوصفه وجبات غذائية ذات طابع عالمي، يقبل عليها الناس في مشرقه ومغربه؛ فذلك يمنحني شعوراً بأنني جزءٌ من عالم اليوم!

وفي يوم آخر أعلن ابني بملء فيه أنه لن يقبل إمضاء إجازة الصيف في ربوع الوطن؛ إذ ليس هناك - حسب وجهة نظره - ما يمتع الناظر، ويرضي الخاطر، ويبعث الفرحة والسرور داخل حدود الوطن. وأضاف «هذا ليس قراري وحدي، وإنما هو ما أوحى به جميع أصحابي الذين ذكروا أنهم طالبوا ذويهم بالبحث لهم عن دولة هنا أو هناك؛ ليقضوا فيها إجازاتهم الصيفية المقلبة».

وفي يوم ثالث تعالى صوته بالصراخ والعويل بمجرد أن رآني أتجه إلى محل يبيع ثيابنا المعتادة التقليدية، وطالبني بتغيير اتجاهي إلى حيث ملابس «المودرن» كما يقول. «هذه الملابس صارت يا أبي (دقة قديمة)، لم تعد تتناسب وعصر الانفتاح الذي نعيش الآن لحظاته». وتابع يجادل «إنني لا يمكن أن أظهر بين أقراني بملابس لا تواكب زمننا الذي نعيش لحظاته الانفتاحية، وتداخل الثقافات وتمازجها، الذي هو العنوان البارز لعصرنا الراهن».

وفي إحدى الأمسيات، حيث كنا في المنزل، وإذا بي أدير مؤشر التلفاز نحو مباراة محلية؛ فما كان منه إلاّ أن نظر إليّ نظرة فيها الكثير من الشفقة، أو لنقل الاستغراب؛ فما كان مني إلاّ أن التفت إليه مستفسراً منه عن تلك النظرة الغريبة التي رمقني بها، فجاء جوابه «الناس لم تعد تكترث بمتابعة المسابقات الرياضية المحلية، وإنما تصرف أنظارها نحو الرياضة العالمية، وبخاصة المسابقات الرياضية الأوروبية، وفي كرة القدم تحديداً».

هذه مواقف متناثرة لفتت انتباهي، وهي آخذة بالتزايد والاتساع يوماً بعد آخر؛ لتطول مناحي متعددة في مشهدنا الاجتماعي المحلي. وإزاء ذلك يحق لنا أن نفكِّر في الإجابة عن عدد من التساؤلات، التي منها: هل نحن أمام إعادة تشكيل لهويتنا؟ والابتعاد مسافات عمّا نمتلكه من قيم، ومبادئ، وموروث ثقافي ومعرفي نفتخر ونعتز به؟ وهل نحن بصدد الدخول في مرحلة الخطر إن لم نتصدَّ لهذه الظاهرة وهي ما زالت في بداياتها، أو مهدها؟ أم أن الأمر يأتي ضمن سياق طبيعي تفرضه معطيات ومستحقات الفترة الراهنة التي نعيش لحظاتها، ومن ثم يجب أن يكون تركيزنا منصباً حول ترشيد ما نتلقفه، والعمل على استبقاء الصالح منه، والتصدي بكل قوة في وجه الطالح؟.. هذه جملة من التساؤلات والأفكار جالت في خاطري وأنا أتأمل في تنامي ظاهرة (الزهد) في جوانب شتى من معطيات حياتنا المتعددة المشارب ذات المصدر والمنشأ المحلي.

وأجدني ميالاً إلى القول جواباً لعدد من الأسئلة الآنفة الذكر بأنه من غير الحكمة التصدي بكل ما أوتينا من قوة لانعكاسات ما يحدث من حولنا من متجسدات؛ لأننا في النهاية سنُمنى بهزيمة ساحقة، وستذهب جهودنا سدى؛ وذلك يعود إلى أننا ليس باستطاعتنا إغلاق جميع منافذ تسلسل ما يكمن أن يصل إلينا من نتاج العالم بشقيه الفكري والمادي؛ فثورة الاتصالات التي جعلت العالم بمنزلة قرية كونية صغيرة جعلت من غير الممكن، بل من المستحيل الوقوف بوجه التمازج والتداخل، أو لنقل بعبارة أكثر دقة الانصهار العالمي في ألفيته الثالثة، وهكذا فالتحولات الدولية التي نشهدها اليوم لا قِبل لنا في تعديلها أو تحويلها. والمناداة بذلك هل هي دعوة للاستسلام والتقاعس، والوقوف مكتوفي الأيادي، وترك أبوابنا مشرعة على مصراعيها ليدلف إليها كل ما جاد به العالم شرقه وغربه، حسنه وسيئه؟

لا، بإمكاننا عمل الكثير تحت عنوان كبير اسمه «التوعية والترشيد المتوازن»، القائم على أُسس علمية، لا على اعتبارات عاطفية تستند إلى إقصاء ما يمتلكه الآخر من قيم، ومبادئ، ومعطيات حضارية، لا لسبب إلاّ أنها ذات مصدر خارجي مخالف لما نمتلكه، والاعتزاز بما لدينا بالرغم من مخالفته لسنن الكون، ومبادئ شريعتنا السمحة. إذاً، نحن يمكن أن نبرز محاسن ومساوئ ما يفد إلينا من غير مبالغة وتهويل، ومن ثم ترك الخيار للمتلقي في محاولة منا للابتعاد عن ممارسة أي من صنوف الوصاية، وفرض الرؤية الواحدة. أفراد مجتمعنا أصبح لديهم من الوعي والإدراك والمعرفة بقدر يجعلهم قادرين على الاختيار بأنفسهم. دورنا إذاً ينبغي أن يتوقف عند القيام بحملات توعية، وتقديم خطوات عملية لكيفية التعامل الأمثل لما يتم تصديره إلينا من قيم، ومعارف، ومنجزات حضارية، ومحاولة رفع سقف الاعتزاز بما لدينا مما يقابل تلك الأمور على مختلف الأصعدة الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، وغيرها من المجالات، وتحديداً المتناغمة والمصاغة وفق الأطر السليمة في كل صعيد من هذه المجالات. ومن هنا فجهدنا ينبغي أن يكون منصباً نحو توعية الناس بأن ليس كل ما يتخذ الصبغة العالمية هو في واقعه نموذج يجب أن يُتبنَّى ويُحتذى، وأنه الرقيّ الحضاريّ الذي لا رقيّ بعده! رسالتنا لبني قومنا يجب أن تكون أن عليكم التريث في استقبال ما يفد إلينا حتى ينجلي ضرره من نفعه، ومعرفة مدى مناسبته لنا من عدمه. وأن نحاول أن نؤكد أننا يجب أن ننطلق في تلقينا أي منجز إنساني ثقافي كان، أو علمي، أو حضاري، بعدم الشعور بالعجز والانبهار؛ فلنا إرثنا الغني في كل مجال، ومن هنا يجب أن نحاول فقط انتقاء الصالح وتنحية الطالح جانباً مما جادت به الإنسانية المعاصرة من منجزات حضارية.

alseghayer@yahoo.com
 

يا أبي.. مزمار حيِّنا لم يَعُد يُطربني!!
د. خالد محمد الصغِّير

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة