ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Tuesday 20/03/2012/2012 Issue 14418

 14418 الثلاثاء 27 ربيع الثاني 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

قال لي أوَّل ما جلس بجواري: أهلاً وسَهْلاً ومرحباً، بلسان عربي فصيح تُخالطه لكْنته الأعجمية في بعض الحروف مخالطةً لطيفة خفيفة، قلت له مسروراً بسلامة لغته، وأهلاً وسهلاً ومرحباً، ومَدَدْتُ يدي إليه مصافحاً، فقال ضاحكاً: أعطيتني من التحية مثل ما أعطيتك بالتمام، وأنتم أيها العرب أهل كرم، فلماذا لم تزدني؟ قلت له: وأزيدك: حيَّاك الله يا أخي.. ما اسمك الكريم؟ قال: لا أريد أن أقول لك اسمي حتى لا تُفاجَأ، قلت: أنا أخوك عبد الرحمن، والمسلمان إذا تلاقيا كان مُستحباً لهما أن يتعارفا، قال مبتسماً - وهو رجل طريف - أنت حاصرتني في ركن ضيق بهذا الكلام، قلت له: أوَّلاً أنا مُعجب بطريقة نطقك للضاد لأن كثيراً من إخوتنا الأعاجم لا يتقنون نطقها، ثانياً: لماذا حاصرتك في ركن ضيِّق، ولماذا تقول: إن اسمك سيُفاجِئني، هل أنت رجل خطير؟! ضحك ضحكة عالية فيها قدْر كبير من الإزعاج وقال: سأختصر الموضوع، وأقول: إنني غير مسلم، واسمي جوزيف، يعني أنا بحسب تعبيركم أنتم (كافر)، ثم نظر إلى وجهي قائلاً: أظنك ندمت على التّرحيب عليّ وعلى مصافحتي؟ قلت مبتسماً: كلاَّ، وإنما ندمت على عدم كونك مسلماً، مع أنّ الدين عند الله الإسلام، وعيسى عليه السلام كان مسلماً، وأتباع عيسى في زمانه كانوا مسلمين، وكلَّ من عَبَد الله بما جاء به عيسى عليه السلام بعد موته، وقبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمون وإنما كَفَر من بدَّل دين المسيح وغيَّره، وجعل الإله الواحد المتفرِّد آلهة ثلاثة بغير حق، لقد شعرت بالأسف أنك وأنت المتحدث الممتاز بلغة القرآن لم تسلم.

سكت جوزيف طويلاً، حتى شعرت بأنّ جداراً من الصمت قد قام بيني وبينه، ثم قال: أتدري أنني قد سمعت هذا الكلام وأكثر منه عشرات المرات، ولكنَّ صوتك وطريقة كلامك معي وانفعالك الصادق جعل لكلامك أثراً خاصاً في نفسي، قلت له: أتدري أن الصوت هو مقياس الزلازل الداخلية في قلب المتحدث ووجدانه؟ وأنا والله يا جوزيف أشعر بالندم الشديد الآن، لأنك غير مسلم. قال: لماذا يعنيك أمري إلى هذه الدرجة وما أنا وأنت إلا رَجُلان تلاقيا في سفر وسيفترقان وليس من المحتمل أن يلتقيا مرة أخرى؟ قلت له: يا رجل أنت مدهش في إتقانك للغة العربية فأين وكيف تعلَّمتها؟ قال: تعلَّمتها في بلدي فرنسا، وقد سخَّر الله لي رجلاً مغربياً كان مُغرماً باللغة العربية متعصِّباً لها أشد من تعصُّب الفرنسيين للغتهم، وقد وجهتني الدائرة التي عملت فيها وعمري 19 عاماً إلى تعلُّم اللغة العربية بإتقان لحاجتها السياسية والتجارية إلى ذلك، واختاروني من بين عدد من الشباب الفرنسي لأن مقياس الذكاء عندي كان عالياً، فأتقنتها تماماً في ثلاث سنوات، وحفظت أبياتاً شعرية من المعلَّقات الشعرية الجاهلية كما تسمُّونها.

هنا رانَ عليَّ أنا الصمت بصورة عجيبة، ولم أنبسْ ببنتِ شَفَة، كما يُقال، واخترق هو جدار الصمت بقوله: أنت الآن تكافِئني بالصمت مقابل صمتي قبل قليل، وضحك وضحكت قائلاً: كلاَّ، ولكنَّ نبرات صوتك أحدثت في نفسي ما أحدثته نبرات صوتي في نفسك، قال مبتسماً: تعني أن مقياس الزلازل عندي ممتاز.

قلت له: يا جوزيف، قال: لبّيه، قلت: ما شاء الله أنت تعرف هذه الكلمة؟ قال: علَّمتني إياها سنوات من العلاقات بسياسيين ورجال أعمال ومثقفين من بلادك، ولكنني أعترف لك بأنهم كانوا يتعبونني في التفاهم باللغة العربية، فهم يجيدون الإنجليزية وأنا لا أجيدها، وأنا أجيد العربية كما تسمع وهم لا يجيدونها، قلت له مبتسماً: كيف تقول: إنهم لا يجيدون العربية، وهم عَرَب؟ ضحك قائلاً: أنت تعرف المشكلة فلماذا تسألني؟ أنتم العرب من أشدِّ الناس إهمالاً للغتكم العظيمة، وأنت العربي الوحيد، في مجال علاقاتي، الذي تحدث معي باللغة العربية الجميلة بعد أستاذي المغربي وصديق جزائري توفي قبل سنوات، ولهذا أنا سعيد جداً بلقائك.

قلت له وقد دنا فراقنا: يا جوزيف، قامت عليك الحجة - والله - فقد عَرفْتَ لغة القرآن، وزالت الحواجز بينك وبين فهم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فلماذا لا تكسر حاجز الشيطان وتعلن إسلامك بشجاعة وقوة؟

سكت قليلاً: وقال: ربما أفعل ذلك ذات يوم، وأصرَّ على عدم تبادُّل العنوان والهاتف، قائلاً: التقينا صُدْفَةً، وقد نلتقي مرة أخرى صُدْفَةً، قلت له: ليس في الكون شيء اسمه صُدْفَة، وإنما هنالك أمور تحدُث بقدر الله ومشيئته. وانتهى الحوار.

 

دفق قلم
فاجأني جوزيف
د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة