ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Thursday 22/03/2012/2012 Issue 14420

 14420 الخميس 29 ربيع الثاني 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

لا أظن أحداً يكره شيئاً في عالم السينما مثلما يكره منظر مصاصي الدماء في الأفلام. إنه منظر قبيح ومرعب، منظر المجرم الموغل في دمويته، منظر الوحش يفترس ضحيته. لكن لم يخطر في بال أحد أنه سيشاهد هذا المنظر بصورة أشد فظاعة وأشد رعباً في عالم الواقع القريب في سورية

الحبيبة، وعلى شاشة الأخبار كل يوم. إذا كان هذا شعور المشاهد وانفعاله بالأحداث الدامية التي يراها وهو في منزله، فأي شعور - بل أي مأساة يقاسيها الشعب السوري الذي يواجه مصاصي الدماء منذ أكثر من عام؟

من كان يتخيل أن هذا الطبيب الشاب الذي تخصص في طب العيون سينقلب إلى مصاص دماء، وهو الذي تعلم في دراسته أن رسالة الطبيب تتمثل في الحفاظ على حياة الإنسان لا إتلافها؟ هل قضت صفة السياسي الحاكم على صفة الطبيب الرحيم؟ أم أن شخصيته انصهرت في بوتقة النظام الحزبي الحاكم وأصبحت جزيئاً من جزيئاته؟ إن مما يزيد اندماج الطبيب المداوي في زمرة مصاصي الدماء - سواء كان هو الآمر أو المأمور - صلابة وعناداً أنه مقيد بثلاثة انتماءات: القيد الأول الانتماء للطائفة، القيد الثاني التعصب للحزب، القيد الثالث الإرث العائلي (الأسدي!) لكنه يخلو من أي انتماء لشعبه ووطنه - إلا من حيث فهمه للوطن أنه ذلك الحيز الجغرافي الذي يخضع للانتماءات الثلاثة. لذلك يستمر امتصاص دم الشعب السوري بلا رحمة ولا مبالاة. ولو التفتنا إلى هذه الانتماءات - كل على حدة - فسوف نجد أن معالمها وحدودها غير واضحة، بل هي متداخلة لأنها وحدها لا يستقيم لها عود. فالطائفة العلوية لا توجد في سورية فقط - بل هي تمثل في تركيا من السكان نسبة تقارب نسبتهم في سوريا أي ما يزيد قليلاً على 10%. والعلويون في تركيا يعيشون مع مواطنيهم - الذين أغلبهم من المسلمين السنة - في سلام ووئام. والطائفة العلوية في تركيا ليست متماهية مع التوجهات البعثية. فقد جرى ضم مناطقهم - أنطاكية والإسكندرون - إلى تركيا قبل الحرب العالمية الثانية بينما أنشئ حزب البعث بعد الحرب. ومع أن مؤسس حزب البعث (زكي الأرسوزي) ينتمي للطائفة العلوية فإن هذا لم يكن له في البداية تأثير على قيادة الحزب التي تولاها حتى عام 1963 زعماء ومفكرون من طوائف أخرى. من أمثال ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومنيف الرزاز وأكرم الحوراني (بعد دمج حزبه العربي الاشتراكي مع حزب البعث).

ومن ناحية أخرى فإن الطائفة العلوية في سوريا لم تكن مهددة، بل كان أفرادها يشتركون مع أغلبية السكان والأقليات الأخرى في النضال ضد الاحتلال الفرنسي. لذلك يبدو أن الانتماء الطائفي ما هو إلا بطانة يستخدمها مصاص الدماء لعزل أفراد طائفته عن جسم الشعب السوري، دون أن يبالي بأن الإيهام بحماية الطائفة العلوية (والأقليات الأخرى حسب زعمه) وتخويفها من حكم إسلامي سني فيه ظلم كبير وتجنّ على الطائفة نفسها وإثارة للكراهية. أما مراجعة الانتماء الحزبي فإنها تزودنا بنتيجة أكثر بؤساً. فما الذي بقي من حزب البعث أصلا، غير الاختفاء وراء شعارات مفرغة من أي مضمون وهو نفسه - أي الحزب - لا يعمل بها وغير نظام قمعي استبدادي؟ كان شعار الحزب وقادته الأوائل هو: (حرية - وحدة - اشتراكية). ففي أي دولة من الدول التي حكم فيها الحزب تمتع الشعب بحريته؟ لا في العراق ولا في سوريا حكمت مبادئ الحزب، بل حكم نظام الحزب الواحد الذي حشر جميع التيارات السياسية تحت عباءته أو طاردها أو قضى عليها (سواء كانت إسلامية أو قومية أو شيوعية أو ليبرالية)، وأقام أجهزة أمنية قمعية تحصي على الناس أنفاسها، واتبع في أسلوب تنظيماته الحزبية والأمنية نفس الأساليب التي اتبعتها الأنظمة الفاشية في ألمانيا النازية ثم بعد ذلك ألمانيا الشرقية أو بشكل عام في جميع الدول التي تخضع لنظام حزبي استبدادي ينفرد بالحكم ويقيم نفسه وصياً على جميع السلطات. إنها الوصاية التي تسلب كل من تشمله حرية الإرادة. وكيف يمكن لحزب واحد منفرد بالحكم أن يمارس وصاية شمولية دون أن يكون عنده آلة فعالة وقوية يخيف ويضرب بها مثل تلك التي يملكها النظام الحاكم في سوريا؟ أما شعار الوحدة فقد مزقه الحزب نفسه. فإن الحزب الذي كان حريصاً على الوحدة مع مصر عام 1958 ورضي في مقابل ذلك بحل الأحزاب في سوريا هو نفسه الذي أيد حركة الانفصال التي قام بها مأمون الكزبري وعبدالكريم النحلاوي عام 1961، ثم إن الحزب نفسه الذي كان موحداً تحت قيادة قومية انفصمت عراه وصارت وحدة الحزب أثراً بعد عين بعد أن وصل تحت قيادته القطرية في كل من العراق وسوريا إلى الحكم، وصار (كل حزب بما لديهم فرحين)، بل انقلبت الوحدة الحزبية إلى خصومة سافرة بين العراق وسوريا في عهد صدام حسين وحافظ الأسد.. ومنذ عهد حافظ الأسد لم يكن حزب البعث هو الحاكم في سوريا وحده، بل مجموعة من الأجهزة التي تملك العدة والعدد والتنظيم، الحب ومكاتبه ونقاباته وميليشياته جزء منها وأجهزة الأمن والمخابرات والجيش أجزاء أخرى، ويحرك خيوطها يد واحدة هي يد الحاكم المتفرد بالسلطة وزمرته القريبة منه. ويدرك مثل هذا النظام (حزبياً كان أو غير حزبي) أن بقاءه وتفرده بالسلطة مرهون برضا هذه الأجهزة وفاعليتها، لذا فهو يمنحها من مظاهر السلطة ويغدق عليها من المنافع ما يجعلها في غاية الرضا والانقياد.. أما بقية الشعب فإنه لا يطلب منهم الرضا بل الطاعة التامة والقبول.

هشاشة البطانة الطائفية من ناحية وانعدام (أو إبطال) فاعلية الحزب من ناحية أخرى أفسحا المجال لحافظ الأسد بأن يهيمن بعد انقلاب عسكري أبيض - بشخصيته الذكية القوية وباستخدام أجهزة النظام على مقاليد الحكم مدة ثلاثين سنة، كانت كافية لنمو طبقة حاكمة متمكنة من ذوي النفوذ والمنتفعين والأقارب تستظل بظل شخصيته وتستمد نفوذها ومصالحها وبقاءها من خضوعها لإرادته وإملاءاته.

ولم يكن المجال متاحاً لأحد أن يبرز نفسه، مما أتاح لحافظ الأسد فرصة إعداد ابنه بشار لتولي القيادة من بعده، فلما مات عام 2000 التفّت تلك الطبقة حول بشار لضمان بقاء نفوذها ومصالحها ولأنه لا يوجد من تتفق الأجهزة على زعامته غير نسل حافظ الأسد. وبذلك صار الانتماء العائلي - في حد ذاته - مصدر قوة وتمكين للرئيس الطبيب صاحب التأهيل العالي ودافعاً قوياً للتشبث بالسلطة والدفاع عن وجود النظام ومحاربة الشعب السوري من أجل ذلك. ولعل هذا يفسر خطاباته المخيبة للآمال التي ألقاها خلال سنة الانتفاضة الشعبية، فبدلاً من القيام بإصلاحات جذرية كفيلة بمعالجة أسباب الانتفاضة الشعبية. -

كما كان الناس يتوقعون من هذا الطبيب الشاب، إذا هو يرمي الانتفاضة بأنها مسيّرة من عناصر إرهابية ويدعو المعارضة (الناعمة) إلى حوار دون أن يسبقه إيقاف للعنف من جهة النظام، وتتوالى في خطاباته إعلانات بتعديلات هامشية في الدستور من بينها انتخاب الرئيس مرتين متتاليتين كل منهما لمدة سبع سنوات - أي بما يضمن بقاءه حتى عام 2028! ثم يعلن إجراء استفتاء على الدستور ينتهي بالموافقة بنسبة 69% وأجري (تحت صليل السيوف). وأخيراً يعلن عن موعد للانتخابات النيابية في مايو هذا العام، لكي يكسب واجهة من الشرعية الزائفة، يمارس النظام الحاكم خلفها ديكتاتوريته التي تمكنه من البقاء. ولكن هل يخدع إلا نفسه؟ وهل يسعى إلا إلى هلاكه؟ فبعد انكشاف الغطاء الطائفي وتمزق الغطاء الحزبي من يرضى في النهاية أن يضحي من أجل عائلة الأسد؟

 

مصاصو الدماء.. في الواقع لا في الأفلام!
عثمان عبدالعزيز الربيعة

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة