ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Saturday 24/03/2012/2012 Issue 14422

 14422 السبت 01 جمادى الأول 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

تشغل «المعرفة الإنسانية» حيزاً كبيراً من التفكير الإنساني في القديم والحديث، في فلسفتها، ودرْك حقيقتها، وتشخصاتها، ومن ثم قوتها وأثرها في النفس والحياة.

وبينما يقول كثير من القدامى والمحدَثين: إن «المعرفة» قوة لها أثر كبير في موضوعات الحياة، فإن لآخر أن يقول: إنها أكثر من قوة، وهي تستتبع قوى أخرى في ركابها، وتستبطن مظاهر إنسانية غير مظهر القوة.

وفي التاريخ العميق، العميق جداً، نجد خيطاً نبدأ منه هذه الحكاية، ففي القرآن الكريم الذي لا أصدق منه قيلاً، ولا أحسن منه حديثاً، حديث عن مبدأ خلق البشر، حين أخبر الله عز وجل ملائكته المسبحة بقدسه بخلق آدم، وما أورده الملائكة بأن هذا المخلوق الجديد (يفسد في الأرض ويسفك الدماء) فيلاحظ أن الله سبحانه وهو العليم الحكيم لم يقل: إنه لن يفعل ذلك، وإنما قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

إذاً كان الجواب بـ»العلم» علمه سبحانه بحقائق الأشياء ومآلات الأمور وما وهبه الله تعالى لآدم من علم الأسماء كلها. ويلاحظ: أن مادة «علم» وما تصرف منها قد تكرَّرت في هذا المقطع القصير «ثماني مرات» وفي ذلك دلالات.

قال بعض العلماء مستلهماً هذه الإشارات: (وبأبسط المعاني أن الله تعالى أفهم الملائكة أنكم علمتهم ما في الإنسان من الاستعداد لعمل الفساد، وسفك الدماء، وجهلتم ما أعددته لصونه، وصرفه عن الإتيان بالنقيصتين المذكورتين، ألا وهو العلم)، ثم قال: (فمما تقدم يفهم أن العلم الصحيح الذي يمكن للآدمي أن يصل إليه، هو العلم الذي به ينتهي الإنسان عن الفساد في الأرض وسفك الدماء، والعلم الذي لا يصون الإنسان عن هذين النقيصين ليس هو بالعلم الذي تعلمه آدم ليدحض حجة الملائكة على أنه سيفسد ويسفك الدماء).

إننا إذا أدركنا مبدأ تاريخ المعرفة الإنسانية، فإننا نثني بأن هذه المعرفة حركة مستمرة للتعرّف منذ أن بدأت مع آدم عليه السلام وإلى أن تنتهي حركة هذه الدنيا، كتعبير المنفلوطي في كلمة له: (العلم سلسلة طويلة طرفاها في يدي آدم أبي البشر وإسرافيل صاحب الصور، ومسائله حلْقات يصنع كل نابغة من النوابغ في كل عصر من العصور واحدة منها).

ولن تكون المعرفة مستمرة حتى تكون حركة دائبة في طرح الأسئلة ابتغاء كشف المزيد، تواضعاً من الإنسان في أنَّ ما يجهله أكثر بكثير مما يعلمه، هذه الحقيقة التي عبر عنها القرآن أحسن تعبير في قوله تعالى: وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً فكان مشروعاً إذاً ومطلوباً: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} وعلى ذلك: فنحن ننظر إلى «المعرفة» لا على أنها «كلٌ متراكمٌ ثابتٌ «بل ننظر على أنها «تعرُّف» مستمر لا يتوقف، كقول العرب في تشبيه الشمس:

والشمس كالمرآة في كف الأشل

قال الجرجاني في أسرار البلاغة: وذاك أنَّ للشمس حركة متصلة دائمة في غاية السرعة، ولنورها بسبب تلك الحركة تموج واضطراب عجب).

وتواضع الإنسان باعترافه بجهله هو الدرجة الأولى في سبيل تعرفه، ولذلك تواتر عن السلف: نصف العلم لا أدري. وقولهم: من ترك لا أدري أصيبت مقاتله. واكتشاف الجهل كما يقول ريتشارد تار ناس مؤلف كتاب «آلام العقل الغربي» شكَّل بالنسبة لسقراط بداية المهمة الفلسفية لا نهايتها.

وكما أن الإنسان يجب أن يدرك جهله، فإنه ينبغي له أيضاً أن يدرك أن الله تعالى وهب له ما به يتعلم ويفكر، وما فيه يتعلم ويفكر، أما ما به يتعلم ويفكر، فبسمعه وبصره وفؤاده، وفي الذكر الحكيم أبلغ تعبير عن ذلك في قوله سبحانه: وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

فالسمع يأخذ الأصوات ويلتقط الكلمات، والبصر يبصر الصور والأشكال، والفؤاد يعقل هذه الأشياء ويكوِّن بينها العلاقات، وهو العقل الذي يقول عنه ابن تيمية: (من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف) وهنا تبدأ عمليه «التعرُّف» ثم تتطور إلى ما لا نهاية في حدود هذا الكون الذي يوسعه الله تعالى حتى تكون النهاية: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ .

وللبشر قدرات تختلف في إدراك التماثل والاختلاف الذي أشار إليه ابن تيمية، وعن طريقه تتشكل العلوم والفنون وتتمايز وتختلف، وتتخذ أنحاء كثيرة يتصل بعضها بالنفس الإنسانية، وبعضها بالحال الاجتماعية، وبعضها بالهيئة الكونية، وبحسب «بيكون» فإن بعض العقول - مثلاً - تنزع إلى التحليل وترى أوجه الخلاف والتباين في الأشياء أينما وجدت، وبعض العقول بطبيعتها تميل إلى البناء والتركيب وترى أوجه الشبه بين الأشياء، والى الفئة الأولى ينتمي العلماء والرسامون، وإلى الفئة الثانية ينتمي الشعراء والفلاسفة وقد قيل: نزلت الحكمة على ألسنة العرب، وعقول اليونان، وأيدي الصينيين.

وبالنسبة للجزء الآخر وهو: «ما فيه يتعلم الإنسان ويفكر» فيمكن أن نقول: إن مجال ذلك هو آياته الشرعية وآياته الكونية، أما آياته الشرعية فبعلمها وتعقلها والاجتهاد في استنباط أحكامها والعمل بها. وأما آياته الكونية فبتصفح ظواهرها، واستقراء سننها، وتسخير ما يمكن تسخيره لمنفعة الإنسان والحياة.

والكون أو الطبيعة مليئة بالأسرار والكنوز المعرفية، والتي تنتظر عقل المفكر، وقلم الأستاذ، ومشرط المجرِّب. ومبدأ ذلك الدهشة التي تحرك التفكير كما يقول أفلاطون وأرسطو. ثم إطلاق العنان للخيال، فالفكرة هي مبدأ كل برهنة واختراع، وإليها ترجع كل مبادرة كما يشرح ذلك «كلود برنار» عالم الفسيولوجيا الفرنسي. ولذلك تساءل: «بيكون» ألا نفطن إلى ثروة الطبيعة كما نفطن لجمالها.

وعندئذ ستكون حياة المفكر الذي يتجلى في كاتب قدير، أو شاعر مجيد، أو مصلح كبير، أو مخترع أو طبيب، أو فيزيائي أو كيمائي، ستكون حياته نوعاً من التبادل والتحاور بينه وبين الأشياء ولا ننسى هنا قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} يقول المفكر الإسباني أورتيجا: (حياتنا حوار: أحد المتحاورين فيما هو الفرد، والآخر هو المنظر والبيئة المحيطة).

إنَّ قدرة الإنسان لا تنحصر في أنَّ الله تعالى زوَّده بأدوات التعرف، ودلَّه على مجالات التعارف، بل قبل ذلك: فطره سبحانه على جملة من الحقائق، والتي هي بمثابة النور له، وعليها يؤسس ما يمكن أن يعرف؛ فهو مفطور على الإيمان بخالقه، ومفطور على الميل إلى ما يلائم والبعد عما يضر، ومفطور على قيم أخلاقية وجمالية، وهذه أصول المعارف في كل حضارة، وعند كل أمة، وهي من رحمة الله عز وجل بعباده؛ فإن المطلوب - كما يقول ابن تيمية - كلما كان الناس إلى معرفته أحوج، يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته.

وهذه الفطرة التي أومأنا إليها، تعيد لنا تعريف الإنسان باعتباره القادر على التعرف، المفطور على حب المعرفة.

إن لهذا التعريف أثره في التوصل إلى ما به يصلح شأن الإنسان ويسعد، فإن من أخطر ما يواجه الإنسان أن ينسى نفسه، ولذلك كان عقاباً في قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} ونسيان الإنسان نفسه بمعنى: أن يغفل عما يحقق صلاحها وسعادتها، ومنه: أن يَصُدَّ عن مقومات وخصائص نفسه وشخصيته، وما يتبع ذلك من مواهبه وقدراته؛ ولذلك اتجه الدين الإسلامي العظيم في بدء أمره ونهايته إلى إصلاح العقل البشري بتنقيته من الخرافات والأوهام بالتوحيد الذي يحقق نقاء العقل فيعمل بكامل طاقته دون أوهام تحرف التفكير أو تقيد الطاقات.

وأيضاً اتجه إلى تزكية النفس بالأخلاق الفاضلة التي تمنحه قدراً كبيراً من الصفاء، وفيضاً غامراً من العطاء؛ ذلك أن الأفكار العظيمة لا تولد إلا في حالات الصفاء، كما أن التفاني في العمل والجد والمثابرة لا تكون إلا بالفيض الغامر من العطاء.

وبعد أن ندرك أثر الفطرة في المعرفة، فلنا أن نتأمل بعمق، وأن نفكر باسترسال في طبيعة حياة الإنسان، وما مدى أثرها - أيضاً - في البناء المعرفي عبر السنين والأجيال؟

تختصر هذه الآية الكريمة الجواب عن هذا السؤال في قوله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} أجل! فطبيعة حياة الإنسان أنه يعيش في كبد، في كفاح مستمر، وجهاد دائم، فلا يمكنه أن يبني حياته بكل مرافقها؛ سواء أكانت «أدوات تموين» من غذاء ودواء، أم «أدوات تأمين» من ملابس ساترة ومنازل واقية، أم «أدوات تمكين» من أسلحة متنوعة، أم «أدوات تمتين» تُوثِّق العلاقات وتمتن الأواصر من طرق ومراكب ووسائل اتصال؛ إن الإنسان لا يمكنه ذلك إلا في نطاق: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} فما لم يبذل جهداً لن يفعل شيئاً وعلينا أن نعرف: أن من أولويات قيام الحضارات تقدير قيمة العمل، والمعرفة في جزءٍ كبير منها هي من نتاج هذا العمل وهذا الكفاح، بل بعض الفلاسفة كالفيلسوف الأمريكي البرجماتي «ديوي» يجعل الكفاح في الحياة هو أساس المعرفة كلها، ويقول في ذلك: إن التفكير يتبع الكفاح، والفعل يتبع التفكير. وهذه النظرية وإن كانت غير مسلمة على إطلاقها إلا أنها تصح في كثير من موضوعات الحياة.

إن الهدف من معرفة أثر المعرفة أن ندرك دورها في حياة الإنسان والتي تنقله من السذاجة إلى الحنكة، ومن البساطة إلى الدربة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ولا يكون مثل بعضهم يعبر الحياة كالطفل الذي يقلب صفحات كتاب مقتنعاً أنه يقرأ فيه مثلما قال ذلك شاعر الهند «طاغور».

وعند هذا «المحك» نكون قد وصلنا إلى مرتكز دعوانا: أن المعرفة ليست قوة فحسب بل هي أكبر من ذلك؛ إذ تجتمع فيها أنواع من القوى، وإذ تتعدى مظهر القوة، إلى مظاهر أخرى يكون لها طابعها في موضوعات نفسية وحياتية قد لا يكون من السهل حصرها وتعدادها، فكيف إذاً نستطيع أن نبرهن وندلل على صحة دعوانا؟

هنا لابُدَّ أن نرجع ونتطلع في الوقت ذاته إلى طبيعة خلق هذا الكون الفسيح, وأيضاً إلى طبيعة هذه الحياة الممتدة وصيرورتها فمن خلال «الكون» و»الحياة» سندرك المدى المؤثر للمعرفة في حياة الإنسان، وأنها هي القوة الكامنة الحقيقية له، وأنها أيضاً أكثر من قوة.

إنه من خلال النظر في: «طبيعة خلق هذا الكون» ندرك بتأمل المؤمن المتعرِّف أن في هذا الكون: (من الإتقان والإحكام ما يدل على علم الله تعالى، ومن الإحسان ما يدل على رحمته، ومن الاختصاص ما يدل على مشيئته ومن العواقب الحميدة ما يدل على حكمته، ومن الحوادث ما يدل على قدرته) كما يقول ابن تيمية.

وبهذا الإدراك الواسع الذي لا يقف -فقط- عند سنن الكون الهندسية وما طبع عليه من انتظام فائق ودقة متناهية، إلى ما وراء ذلك من الحكم الإيمانية التي تتجلى فيها أثر الصفات الإلهية من القدرة الربانية، والرحمة الإلهية، والمشيئة والحكمة والإحسان.

وهذه السنن مع الحكم؛ لا شك أن المتعرِّف إذا فعَّلها في حياته ونشاطه الإنساني والمعرفي سيكون لها الأثر البالغ في جودة أبحاثه وعمقها وقوتها، وفي ناحية أخرى لا تقل عما سبق أهمية وهي أبعادها في خدمة الإنسان والرأفة به، ذلك أن الإنسان إذا كان بهذا العقل المستنير المنسجم مع ما في الكون من دلالات الإبداع والإتقان مع الرحمة والإحسان سيكون في ذات الخط الذي تجري عليه سنن الكون من: «آية الإبداع وحكمة الإنشاء». وعليه أستطيع أن أضع «نظرية كلية» بين يدي الباحثين في الفكر الإنساني وتاريخ الحضارة تقول: إنَّ سرَّ تأخر المعرفة الإنسانية هو بسبب عدم أو ضعف تفعيل أحد هذين العنصرين: ((آية الإبداع وحكمة الإنشاء)) في الأبحاث والأطروحات العلمية والفكرية.

ولنضرب «مثلاً» بالحضارة الإسلامية المعاصرة، والحضارة الغربية الحديثة؛ فحضارة المسلمين الآن تفتقد لعنصر ((آية الإبداع)) وإن تحدثت عن «حكمة الإنشاء» ولذلك فهي حضارة خاملة لا تأثير ولا ازدهار. أما الحضارة الغربية فإن لها كشفاً وبحثاً في «آية الإبداع» لكنها في صدود عن «حكمة الإنشاء» ولذلك نستطيع أن نقول: إنها «حضارة سطحية» بمعنى أنها وإن كان لها ازدهار ربما أبهر ولفت الأنظار، إلا أنها تبقى على السطح تفتقد للعمق الذي يبحث عن ما وراء الظواهر الكونية من حكمة الرب وتقدير الإله، وبالتالي يضعف الشرط الأخلاقي عند إجراء هذه الأبحاث و»إذا لم يقترن العلم بالضمير أدى إلى خراب النفس» كما يقول فران سوارا بليه.

ولقد نشأ عن هذه «السطحية» أن المعرفة الإنسانية والتي ترفدها حقيقة وتأخذ بزمام مبادرتها الحضارة الغربية أنها وإن حققت قوة ظاهرة لا ينكرها أحد إلا أنها افتقدت الجزء الآخر الأهم وهو: «الأمان في هذه المعرفة» وما لم يكن الأمان مع القوة فإن المعرفة ستصبح مارداً لن يستطيع الإنسان في قادم الأيام السيطرة عليه. ولذلك يقول «ألبرت أينشتاين» العالم الفيزيائي الألماني وواحد من أبرز مفكري الحضارة الغربية المعاصرة: لا أعلم بأي سلاح سيحاربون في الحرب العالمية الثالثة، لكن سلاح الرابعة سيكون العصي والحجارة. ويقول الطبيب والفيلسوف الألماني «ألبرت شفايتزر»: نعيش في عالم خطير، فالإنسان حكم الطبيعة قبل أن يتعلم كيف يحكم نفسه.

وفقد الأمان أو ضعفه من تجلياته: الأوضاع المناخية المزرية، والتسابق الخطير في تصنيع السلاح الذي يدمر الأرض والحياة والحيوان. ونعيد ونكرر أن «حكمة الإنشاء» لابُدَّ أن تكون مقترنة بـ «آية الإبداع» عند إجراء الأبحاث التي تتقدم بها المعرفة مرحلة بعد مرحلة ليكون الإنسان منسجماً مع هذا الكون وما فيه من أسرار وكنوز، ورحم الله ابن تيمية لما قال في وصف ما يجب أن تكون عليه الأمة: ((فأما الأمة الوسط فلهم العلم والرحمة كما أخبر عن نفسه بقوله رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا )) وإن أي أمة في الشرق أو الغرب تحقق هذه المعادلة « العلم مع الرحمة « هي التي ستقود الإنسانية حيث الأمان والازدهار والرخاء والسلام.

إذاً: فطبيعة هذا الكون دليل أول على أن «المعرفة قوة وأكثر من قوة»، وثمة دليل آخر تتم به الأدلة من حيث الإجمال وينقطع عنده القول، وهو: ((طبيعة هذه الحياة وصيرورتها)).

والسؤال الأهم عند هذه النقطة هو: كيف نعرف طبيعة هذه الحياة؟

في نظري - والأفكار والفلسفات تختلف في جواب هذا السؤال-: إنه لمعرفة طبيعة الحياة لا بُدَّ أن نقرأ التاريخ باختلاف عصوره وتتابع قرونه حتى هذه اللحظة؛ فإن اللحظة بمجرد مرورها تصبح تاريخاً جديراً بالملاحظة والدراسة. والأمة المتفوقة أو لنقل: صانعة التاريخ؛ هي التي تحسن قراءة التاريخ.

لكنَّ التاريخ ما هو؟ ليس هو تاريخ الحملات العسكرية، والكَرّ والفَرّ، وداحس والغبراء - كما يدرس في كثير من مناهج التعليم خاصة في العالم العربي - وإنما هو كما في كتاب الله عز وجل من استنطاق السنن وتلخيص النتائج من التجارب الإنسانية عبر التاريخ؛ وكما حاول أن يصنع ابن خلدون في مقدمته وقد بدأ فعلاً، وتعتبر مقدمته مقدمة لهذا النوع من التاريخ الذي يؤرخ فعلاً للحياة بما له من مردود إيجابي في الرقي بمستوى الحياة، وعلى هذا النمط الذي نريد يصنع «فولتير» عند ما كتب عن فلسفته للتاريخ، وقال في ذلك: لا أريد أن أكتب تاريخاً عن الحروب ولكن عن المجتمعات، وأن أؤكد كيف عاش الناس في داخل أسرهم وعائلاتهم، وما هي الفنون المشتركة التي هذبوها وارتقوا بها.. إن موضوعي هو تاريخ العقل البشري، وليس مجرد عرض تفصيلي للحقائق الجميلة.. أريد أن أعرف حقيقة الخطوات التي خطى بها الناس من العصور البربرية إلى المدنية.

إذاً: لن تنفعنا كثيراً القراءة في التاريخ الذي لا يأكل ولا يشرب، كما يصفه بذلك المؤرخ الفرنسي «فرنان بروديل» ويقول في عبارة مهمة له، ومنتقداً المؤرخ التقليدي: إن رؤية المؤرخ للكيفية أوضح بكثير من رؤيته للسبب.

أجل! إن الرؤية المجردة في ذكر الأحداث لن تنفع لنهوض البشرية وتقدمها، ما لم تكن قائمة على تعرف الأسباب، وصياغة وصَكّ السنن، وهذا -كما تقدم- هو الذي يدعونا إليه القرآن الكريم في ذكره لأسباب نهوض الأمم وسقوطها، دون الاستغراق في تفاصيل أحداث لا تخدم هذا المنظور، ولقد أبان القرآن الكريم هذا الهدف بوضوح في قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ولهذا كان «قَصُّ» القرآن الكريم أحسن القص، «وقصصه» أحسن القصص، لا من حيث الجمال البياني في سوق القصة فحسب، ولكن من حيث الهدف والمغزى الحياتي والحضاري الذي يركز على السبب ويقدم النتيجة.

وللتمثيل على ذلك - وهو مثال يقِّدم رؤية واضحة في التاريخ الذي يجب أن نصوغ ونقرأ - نذكر ما قاله شيخ المفسرين المعاصرين الطاهر ابن عاشور في تفسيره «التحرير والتنوير» عن قصة شعيب عليه السلام مع قومه، وكيف أن القرآن الكريم قدَّم من خلال هذه القصة الأصول الكبرى التي تنهض عليها الأمم صلاحاً وازدهاراً، يقول في ذلك: ((حاصل ما أمر به شعيب قومه بعد التوحيد ينحصر في ثلاثة أصول: حفظ حقوق المعاملة المالية، وحفظ نظام الأمة ومصالحه، وحفظ حقوق حرية الاستهداء)) فلاحظ كيف أن قصة واحدة من قصص القرآن الكريم قد قدمت للقارئ المتدبر أرقى ما يمكن أن تصل إليه الحضارة في ثقافة الحقوق وسياسة الشعوب وحفظ الحريات بإنصاف واعتدال.

نرجع ونقول: إن هذا التاريخ بهذا المفهوم الحضاري لا العسكري هو الذي يقدم لنا الفهم الحقيقي للحياة وتطوراتها، وهو أيضاً يضع التاريخ بهذا المفهوم ضمن الإطار العام للمعرفة، باعتبار أن المعرفة: « علم الأسباب « بحسب المؤرخ الفرنسي «تين» الذي يرى أن مهمة أي علم هو: «اكتشاف الأسباب» لكن - طبعاً - ليس بخلفية «تين» الوضعية للمعرفة، والتي يحصرها - أي المعرفة بالتجربة الحسية.

نصل من هذا - من خلال قراءة الحياة بالتاريخ الحضاري - إلى أن المعرفة هي من ترفد حياة الإنسان: (ماضياً وحاضراً ومستقبلاً)، فالماضي من جهة استنطاق تجارب التاريخ لإدراك قوانين النجاح وأسباب الفشل. و»مستقبلاً» بتوقع المستقبل قبل الوقوع فيه، ورضي الله عن عمر بن الخطاب ذلك الملهم الراشد حين قال في كلمة تروى عنه: الرجال ثلاثة: رجل ينظر في الأمور قبل أن تقع فيصدرها مصدرها، ورجل متوكل لا ينظر فإذا نزلت به نازلة شاور أهل الرأي وقبل قولهم، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشداً، ولا يطيع مرشِداً.

وتوقع المستقبل هذا يلزم منه، آلاف من الدراسات ومئات من المراكز التي تقوم على البحث العلمي الجاد والممنهج.

أما «الحاضر» فالمعرفة تخدمه وتسيره بكل ما توصلت إليه المعرفة من مناهج وتجارب وأدوات متنوعة الطبائع والأغراض.

إذاً: أزمان ثلاثة يقابلها وظائف ثلاث للمعرفة: الماضي والمعرفة تدرسه والحاضر والمعرفة تخدمه وتسيره والمستقبل والمعرفة تتوقعه وتُعدُّله.

وعلى هذه الفرضية للأزمان والوظائف الثلاثة والثلاث، أستطيع أن أصوغ نظرية لهذا الموضوع بالقول: إنه كلما ارتقى إنسان «فرداً أو أمة» في آفاق المعرفة، فإنه يرتقي وبنفس الدرجة في فهم الأزمان الثلاثة، فتكون دراساته التاريخية أجود وأكثر مردوداً، وتكون أساليبه الحياتية المعاصرة أفضل وأيسر، وتكون مشروعاته وأطروحاته للمستقبل أكثر إصابة للهدف وأقرب حقيقة لما سيكون عليه الواقع.

وبهذه المهارة في توقع المستقبل يصل إلى الأراضي البكر قبل أن يصل إليها الآخرون، وتتحقق فكرة «حراثة المستقبل» قبل أن يوضع فيه منجل.

وليس الذي يتبع الوبل رائداً

كمن أتاه في داره رائد الوبل

كما يقول شاعر العربية المتنبي.

وإذ قلنا قبل: إن المعرفة ترفد حياة الإنسان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، فإننا نستطيع أن نضع نتيجة نختم بها هذا الموضوع بالقول: إنها تعيد أيضاً صياغة المجتمعات على نحو من سموِّ الإبداع والأفكار والأخلاق. والإبداع لن يكون إلا بعد إتقان، والإنسان فرداً أو مجتمعاً إذا ابتغى أن ينتقل مباشرة من حياة الخمول إلى حياة الإبداع قبل أن يمر بالإتقان فهو يطلب سماءً بلا أرض وسيكون الإخفاق ولابد. في مجتمع المعرفة سيكون الجميع منشغلاً بالإجابة عن أسئلة هذا الكون المفتوح: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وفي مجتمع المعرفة ستكون الأخلاق أطيب وأكثر تسامحاً، لأن المعرفة ستوسع الحياة وتُعدِّد الحيوات ويعلم الجميع أن أرض الله واسعة تسع الجميع وأن فرص النجاح متاحة لكل من عمل لها، وفي مجتمع المعرفة ستصنع الاستراتيجيات الوطنية للدول لا على محور القوة الذي يهدد به البشر بعضهم بعضاً بل على محور المعرفة الذي يجعلهم يتعارفون فيما بينهم.

(*) الأمين العام لهيئة كبار العلماء

 

في سباق الزمن..المعرفة أكثر من قوة الحراثة في المستقبل
د. فهد بن سعد الماجد

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة