ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Thursday 29/03/2012/2012 Issue 14427

 14427 الخميس 06 جمادى الأول 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

      

شتان بين قلب الروح الذي يهب الخصب والحياة.. وبين قلب الريح الذي يهب ويفضي إلى الرعب والموات.. الريح كلمة بقلبها.. وأطرافها.. وأحشائها تحصد القلب.. وتدمي.. دون رحمة.. حصادها طوفان.. وثمرتها أحزان.. ورعبها عنوان.. لا أدري لماذا اختاره شاعرنا.. وقد فاتحنا بجسد دون دموع شكاته قلب روح تستطعم العذاب؟

وشقيقتي الآلام نكبر في طفولتنا

بحضنك يا أبي

في صدرك المبتل جرعا.. حسرة

يبدو لي أن تكبر.. أنسب من تكبر نسبة إلى آلام اشتكى منها وأسلمته إلى الوجع.. ثم واو العطف لا شيء قبلها في شطره الأول.. ولا ضرورة لها..

ما زلت تفرغ لي مكاناً أستريح

بغمرة الحب الذي مرّ بي

الحب يغسل كل آلام الحياة

وأنت وحدك من غسلت الحب حتى شع

يثمر نبتة شوكاً على جبينك..

نعم، الحب بدموعه الوفية والرحيمة يخفّف من آلام الحياة وقد يجفّفها.. ولكن يا عزيزي الحب لا يفعله والد ولا أم.. ولا ولد.. لا أحد.. الحب نفسه وبذاته هو الذي يتولىَّ مهمته دون واسطة.. حبذا لو جاء شطرك عن الحب على النحو التالي:

وأنت وحدك من أذكيت الحب حتى شع

وحبك نفسه لا يثمر شوكاً.. بل شوقاً على وجنتي والدك أياً كان الموقف.. علينا أن نعترف للحب بسلطته وسلطانه دون تدخل مخل..

أحاديث في ضمير الطريق (عنوانه الجديد) لأول مرة يا شاعرنا أعرف أن للطريق الأخرس الجامد الترابي ضميراً.. لنقرأ:

تتلبس الطرقات بي. وتبوح

وكأنني لأسى المدائن روح

ودم الحقيقة في عيون مدامعي دمع

وأحشاء السنين قروح

كل هذا جميل لا غبار عليه.. حلمك.. وأغنيتك. وبعض ملامح شجنك على صدر الربا وقد تعرض للذبح وحكاية الليل، والبرد، والساحل الممتد في عثراته بكل مواجعه وجروحه وقد أعياه ابتلاع المساء! رغم أن طوله خصص على وقع مسكنه النجوم. والفقر الذي تبسّم له الحقول.. رغم أن جنوبها موت..! هل كل هذا معقول يا شاعرنا.. دعني أهمس في أذنك في حب.. أولاً (الربا) بالياء (الربى) مفردة رابية.. أما الربا فمن المراباة.. ثم غصص ساحلك الممتد وقد ابتلعه المساء.. كيف تعرفت على مواجعه وجروحه.. لعلمي الساحل لا تغلبه شمس النهار، ولا نجوم الليل. تلك طبيعته.. ثالثاً الحقول تفرح بالخصب.. لا بالجدب.. والفقر جدب.. أما دمع الحقيقة فإنه لا يتحوّل إلى دمع لأنه عدم.

مسجونة مدن الكلام إذا غدت سجنا

على حر مداه الريح

(مسجونة إذا غدت سجناً) كمن يفسر الماء بالماء.. الأنسب أن تقول (مسكينة)

عادت غفار بلا أبي ذر

وما عادت قريش نبيها والروع

شطران جميلان يحملان رؤية معبرة ذات مضمون جيد.

(ممر) محطته الثانية لها نفس النفس.. ونفس الشخوص.. الظلام والضوء واليأس.. والسكون، وأصداء التنهد.

وارتعاشات الشفاه.. وسخرة الرمل من ثائرة الريح على يديه.. ونهايتها عمل حياة، وفقد حياة. أتجاوزها إلى مقطوعته (عطاء المتسوّلين) أجتزئ منها هذا المقطع:

الشمس ترقص في ضلوع قصيدتي

والليل يحضن جذوتي

من هالة العمر المكفن قبل مولده

أطوف على شتات الروح. أجمعها

وانحت مسكناً يأوي إليه توهجي

هنا تبرز إرادة شاعرنا قوية وموفقة.. لقد استعار من وهج الشمس طاقة شعرية وشعورية أبانت له ملامح هو في حاجة إلى استجلائها.. الظلام.. والعمر الذي يموت حياً وقد وُلد دون روح. من خلال هذه الرؤية.. وعبر تطوافه وسيره لما في دواخله أدرك أن لا أحد يحس بوجوده.. استشعر اغترابه.. نحت له سكناً يستمد من وهج وعيه قنديلاً يؤنس وحشته..

أتجاوز المتوسل ومنيته.. كلنا جميعاً ضاق به ذرعاً.. وتأخذنا الرحلة مع فارسها موسى عقيل مشدودين إلى (الطفولة):

طفل تربى كالرياح المرسلة

ويد الربى من حوله متوسلة

ضحكت له الدنيا وأشرق وهجها

في سعيه وسعت عليه مهرولة

(سعت عليه) تحتاج تصحيح (الصمت) (سعت إليه):

غسلته غيمات الصفاء فلم تجد

قلبا يطيق أسى السنين الموحلة

فطمته اثراء الأماني لا يرى

إلا العذاب، ولا يخش سوى الوله

مقطوعة رائعة مليئة بالصور. رسمت ظلالاً رمادية عن حياة طفولة معذبة وطاؤها الأرض. وغطاؤها السماء. ولدت وفي فمها صرخة وجع.. وعلى فمها صرخة جوع وجزع.. كثيرون في عالمنا المسكون بالقسوة أطفال ينشدون الرحمة فما يجدون!

لا أدري لماذا أقدم شاعرنا على نثر أبياتها وهي المقفاة والموزونة والجيدة.

أتجاوز في حب مقطوعات شاعرنا (لست الوحيد) و (انتظار) كي نقف سوياً مع عنوان (تسابيح)

آت كأن ضياء الشمس مرآتي

يغشى لأزمنة الآتين ميقاتي

يلاحق السفر المحموم في لغتي

وفي تسابيح دمعي وابتساماتي

في شطره الأخير.. وما دام شاعرنا في محراب تسابيحه وددت لو أبدل مفردة (ابتساماتي) بمفردة (ابتهالاتي) وكلتاهما صحيحة.

في خفقة كلما طارت بأنسجتي

مدت لها الرح آلاف النداءات

من المحيط إلى صدر الفرات دمي

عزم. وأرقب في الناس انتصاراتي

هكذا أخذته الريح أيما مأخذ.. إنها معه كظله (تارة هادئة) وأخرى تسوق في عنف.. وثالثة تجتذبه إليها كاشفة أمامه ملامح غائبة من أفقه جلّلها السواد.. وأثقلها قيد الانتظار المر.. لقد حملته ريحه.. روحه وجروحه كانت تتأوه على مشهد الهزائم.. دون أن يشهد. ومع هذا لم ينكفئ طموحه.. ولم يسكنه اليأس:

هذا أنا قد مضت للشعر نافلتي

حتى قسمت له فرضي وطاعاتي

بنيت فيه طموحاً لا تغيره

يد السنين ولا ظهر المسافات

لا حد للعمر للأحلام لو صدقت

يحيا الرجال على قدر العطاءات

بهذا القدر من الإجادة أنهى شاعرنا مقطوعته الرائعة (تسابيح) نعبر مع شاعرنا جميعاً (جسد الريح) خشية أن يلقي بنا في عباب البحر الغاضب ونحن لا نجيد العوم فنغرق.. ويبدو أن لا فكاك من الخشية ولا مهرب من الخطر.. (الحصار) في انتظارنا.. يحمل على ما أحسب الكثير من الأخطار:

كالخوف تمتلئ الطريق سماؤها نار

وتربتها جحيم لا يمر بالروح يمتلئ البكاء

سحائب القتلى تمر دماً. وتمطر

حيث أشجار الإدانة عاقر

لجذورها شَرَك تغيب الأرض فيه

من المساء إلى المساء

ومحاجر الساعات يملؤها الشتات

هكذا وبهذا التعبير والتصوير أفرغ ما في جعبته وهو الكثير المثير.. أوطان تفتقر إلى مواطنه.. وأجساد كسلى تحتاج إلى ريح عاتية كي تحركها.. توقظها من مرقدها الطويل.. لا شيء في المشهد التراجيدي إلا قطع غيم سوداء تمطر دماً لا ماء.

اللحم والعظم معاً.. حسناً صاغ لنا مشهد الرياح الأرضية التي لا علاقة لها برياح السماء. نصل سوياً مع شاعرنا إلى (مقطوعته) على جانب السفر الآخر.

يدس أذنيه خلف الريح قد سمعك

أرحم نداءك قلب الريح ليس معك

سعى وصوتك قد أوهى قواه مشى

والعشب يشرب من الثوان ولعك

يراك بهيتك ضوء الشمس ما ملأت

أرضاً يراك بها فرداً وما شفعك

يجري ابتهالاً إلى كفيك كم سجدت

قبلاته من كفوف الريح كي تدعك

ويمضي في قصيدته الجيدة:

عليه تنكمش الأرجاء واتسعت

في صدره النار حتى كاد أن يضعك

وما استدار لأن الريح قد حسبت

خطا الحياة وخطو الروح قد تبعك

كأن وعدك عطر جف واكتهلت

ملامح الدور حتى جئت لن تسعك

في خطابه الشعري روح، بل ريح شاعرة لا تهاب... إنها تصرخ بملء فيها تحدد له مسار دربه تدله على خطوه المجتهد. مذكرة إياه بعمر ملهوف أفناه.

كل المدائن مرّت فيك سافرة

فأيها لا ترى أبوابها وجعك؟

أدر بقاياك لا قطف النجوم دنا

ولا السماء ستروي بالندى ظمأك

ويبدو أن لا حياة لمن ينادي:

انثر جراحك في صدر المساء وعد

ألق المصابيح لا يجدي الصباح معك

شاعرنا أدى ما عليه وأكثر.. كان صوت صحوة لمن تستهويه الغفوة أو الغفلة.

(نجوم لا تجف) محطتنا ما قبل الأخيرة اجتزئ منها بعضاً من أبياتها:

غريب من يشي بالشمس!

لا تلق المسافة في يد الأعمى

ولا توقظ صباحاً لا يراه العابرون

بلا أشياء عمرك يستبد رضا

لا غرابة في ما استغربه شاعرنا.. فينا نحن البشر من يحاول حجب ضوء الشمس لو استطاع كي يبقي جهام الليل طويلاً. وفينا من يبصر بعينيه لا ببصيرته.. وفينا من لا يبصر في الحالتين.. اليقظة قبل كل شيء. وبعد كل شيء يقظة ضمير.. يقظة إحساس بالإنسانية وما نشير إليه ونعنيه من قيم. وسلوك. وعدل.. أخيراً مع شاعرنا وهو يتحدث عن الشعر آخر ما يموت:

الشعر آخر ما يموت. وأول الأحلام أغنية جديدة

لا عمر إلا في الجلال

متى نهضت إليك في دمي الغناء يموج

فاحفظني قصيدة.. طف بالشواطئ

لن ترى إلا الفوارس فيَّ هائمة

على قلقي الذي يتوسل الكلمات أهوج ما يكون

طبعاً أهوج ما يكون من أحوج ما يكون. ألسنا في قلب الريح وهيجانها؟ ويمضي شاعرنا في قصيدته بلسان الشعر:

مذ كنت عاصمة الحياة هربت

والأخطار راحلتي. وزادي بنجمة لمعت

وبدر غرّ صورته الشريدة

كم تولد اللحظات تسرينا..

ما كانت جراح الشمس تتزف كالقصيدة

الشعر آخر ما يموت.

وأول الأحلام أغنية جديدة.

هكذا رأى الشعر.. وهو محق في رؤيته حين يأتي للشعر مذاقه..وآفاقه الرحبة التي يستوعبها دون افتعال.. دون تسوّل أو توسل.. متى جاء صادقاً تتدفق في شرايينه دماء الحياة.. وماء الحياة.. متى جاء صوت حياة وصدى أحياء.

الرياض ص.ب 231185 - الرمز 11321 - فاكس: 2053338
 

استراحة داخل صومعة الفكر
قلب الريح ليس معك
سعد البواردي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة