ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Tuesday 17/04/2012/2012 Issue 14446

 14446 الثلاثاء 25 جمادى الأول 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

ربما أكون المشارك الوحيد في منتدى حاتم الطائي الذي اخترقت عوالمه في وقت مبكر، وجست خلال شعره وحيواته المتعددة والمثيرة، وتجاسرت على إخراج كتابٍ عنه، أثار عنوانهُ حوافظ الكثيرين، ممن لم يستوعبوا مقاصده العنوان ومنطلقاته، ولم يستفزني تحفظ البعض على نتائج بحثي، ولم أكترث باختلاف وجهات النظر حول ما ذهبت إليه من رؤية، يحسبها الظمآن للمعارف تغريداً خارج السرب،

وما هي في النهاية إلا حصيلة آراء توارثها المشهد الأدبي، كاتباً عن كاتب إذ ما ترانا نقول إلا معاراً أو معاداً من أقوال من سلف، ثم إن الاختلاف ضرورة لأي فعل مهم، وأيُّ عمل لا يثبر كوامن الآخرين، ويحفزهم على التناوش يَعْبُر الساحة بهدوء، ثم لا يترك أثراً، ولا يؤكد حضوراً. ويقيني أن الذين تساءلوا عن مقاصد [أسطورة الكرم] عند حاتم بوصفها جزءاً من العنوان، أرادوا الوقوف على مراد الباحث: أهو مُنْكِرٌ للكرم أم مُنكرٌ لمستحيله؟ ولما كان متن الكتاب قاطعاً لقول كل متسائل، فقد لزمت الصمت، ونمت ملء جفوني عن مثيراته. ولأني لم أتخذ منهج [النقد الأسطوري] في مقَاربتي لحياة الشاعر وشعره، إذ ما زدت أن أشرت إلى أن القُصَّاص والمذكرين بمثل ما اقترفوا خطيئة الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، لشد عضد حكاياتهم الخرافية، لم يترددوا في اقتراف الأسطرة للشخصيات الاستثنائية، سواء: أكانت سياسية أم أدبية. نجد ذلك مع الخليفة الراشد “علي بن أبي طالب”، رضي الله عنه بوصفه رجل سياسة وحرب فاق أقرانه ولداته، وكل الشخصيات الاستثنائية يغمرها الرواة بالحكايات الخرافية والأسطورية، التي يستحيل وقوعها، كما هو عند [عنترة بن شداد] بوصفه رجل شعر وآلِه، وفارس حرب ضروس، ومثلما هو عند الأعلام، يكون عند الأحداث، كحرب [داحس والغبراء] والمؤكد تاريخياً وجود [ابن شداد] وقيام حروب العرب في الجاهلية، وأيامهم وأمثالهم وثائق إثبات، غير أن الرواة أغرقوا في المبالغات المستحيلة، فأثَّروا على الجوانب الحقيقية في الحيوات والأحداث. و[حاتم الطائي] شاعرٌ لا غبار على شاعريته، وكريم من كرماء العرب لا جدال حول كرمه، ولكنه بشاعريته دون الفجول، وبكرمه فاق مُجايليه، ولكنه لم يبلغ الحد الذي يتناقله القصَاص والمذكرون. وإذا كان [طه حسين] قد شكك في الشعر الجاهلي، معتمداً في تشكيكه على خلو الشعر الجاهلي من تصْوير الحياة الجاهلية، كما صورها القرآن الكريم، فإنه لم يعرض فيما أعلم لشعر حاتم، ولا لشخصيته، ولا لأخلاقياته، ولكن حاتِماً يندرج ضمن إطلاقاته العازمة، لأنه نفى الشعر، ولم يقف على أشخاص بأعينهم، إلا لضرب الأمثال، لقد كان كتابي [حاتم الطائي بين أصالة الشعر وأسطورة الكرم] باكورة إنتاجي طباعة، وإلا فقد سبقه في الإعداد كتابان:- أما أحدهما فرسالة الماجستير [اتجاهات الشعر المعاصر في نجد] وقد طبع بعده بثلاثة أعوام، أما الآخر فـ[شوقي بين التدينالمجون]، ولمَّا يزل مخطوطاً قد تجاوزه الزمن، وانتهت صلاحيته. وفكرة الكتاب جاءت عندما طلب مني [مدير المكتب الرئيسي لرعاية الشباب بحائل] آنذاك الأستاذ [عبدالعزيز القشعمي] إلقاء محاضرة في الموسم الثقافي للمكتب، فكان أن ألقيتها مساء يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شهر صفر من عام 1400هـ وبعد المداخلات والاستدراكات والإضافات، هيئت للطبع لتكون بشكلها المتداول منذ ثلاثة عقود ونيف. ولم أشأ العودة إليها، لأن موضوعها لا يقع ضمن اهتماماتي الآنية. وحين بادر [نادي حائل الأدبي] لقراءة [حاتم الطائي] شرفت مرة ثانية بدعوة كريمة للمشاركة، وكم يساورني الشك حول إمكانية التوفر على عمل تجاوزي، يضيف شيئاً لعوالم الطائي، إلى جانب الإسهامات الجادة من المشاركين المقتدرين فلقد تحدثت من قبل عن نسب الشاعر وعن أسرته وموطنه حياً وميتاً، وعن أخلاقه التي أشاد بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يوجه بفك أسر [سفانة بنت حاتم]، غير أني ترددت حول ما أضيف إلى كرمه من مبالغات، شارفت حد الأسطورة، كما حاولت تناول الجانب المشكوك فيه من شعره، واستكملت الحديث عن الأمثال العربية المتداولة عن الكرم العربي بوصف حاتما رأس الكرماء العرب. ولقد أشرت إذ ذاك إلى أن المحاضرة كتبت على عجل، ومن ثم ظلت بحاجة إلى مزيد من الإضافات والتَّعْديلات. واليوم أنا أعود إلى عالم حاتم بعد ثلاثين عاماً، أجد نفسي تواقة إلى النشاط والحيوية الذين كنت أتمتع بهما آنذاك، فلقد كنت يومها في عنفوان شبابي، ومن السهل علىَّ تقصي المراجع، ومغالبة الآراء، ومقارعة الحجج، أما وقد وهن العظم واشتعل الرأس شيباً وشغلتني هموم الأمة وتقلبات الطقس العربي فإن هذا العنفوان وذلك الفراغ قد وليا، وشهوة الجدل انطفأت، والجنوح إلى السلام قد غلب، ومن ثم لم أشأ توسيع القاعدة، ولا البحث عن القضايا المختلف حولها، ونبش المسكوت. عنه ولعل المشاركين بما يملكونه من قدرات معرفية، ودقة منهجية، ووفرة حيوية، يسدون الخلال ويأتون بما لم تستطعه الأوائل. والعودة المتأخرة لعوالم حاتم ربما تغريني بمحاولة الإضافة المتصالحة مع الآخر وبخاصة أنني لما أزل أتقلب مع الحرف، وأقف على مناهج وتيارات أدبية ونقدية، لا أشك أنها ستمنحني شيئاً مما فقدته، قد آنس فيه رشدا، هذه المناسبة أغرتني بقراءة كتابي بعد انقطاع دام ثلاثة عقود، كما اجتهدت ما وسعني للاجتهاد للتجرد من عاطفة الأبوة، بوصف مؤلفات الإنسانكأبنائه، حتى لقد أثرت أكثر من تساؤل، حول ما حققت من الموضوعية والمعرفية، وماذا ينقص ذلك العمل بعد تلك المدة، واتضح لي أن الكتاب رصدٌ دقيق لمرحلة تاريخية لحياتي المعرفية، وأن الزمن والإمكانات قد تجاوزته، ولم يعد الجُهْد كافياً لإعادته، ولكنه يظل محتفظاً بقيمته التاريخية. وأنا سعيد حين كنت جريئاً ووافقت على طباعته بهذا الوقت المبكر من حياتي الأدبية، وبتلك الإمكانات، ويقيني أنه لما يزل جديراً بالبقاء، ذلك أنه اعتمد المنهج التاريخي، وهو منهج يغالب النسيان، وليس هناك ما يمنع من الانطلاق منه أو الانطلاق به، ليعيش مرحلة تاريخية جديدة من حياتي. فحين أتحدث عن حاتم الطائي منطلقاً من مسارح طفولته، ومراتع شبابه، ومرابع كهولته، ومثوى شيخوخته، ومستقر جسده، وأحاول إعمال مدركاتي وآلياتي الجديدة أجد نفسي أمام شخصية تصنع المكان، ويصنعها المكان، وقد نختلف حول تلك الثنائية: الإنسان والمكان، بمثل ما اختلف النقاد حول ثنائيته [المتنبي-وسيف الدولة] و[زهير- وهرم بن سنان]، أيهما صنع الآخر، ومثلما اختلف فقهاء بيزنطة حول [البيضة والدجاجة]. قد يسهل علينا الحكم بأن زهيراً صنع هرماً، ولكن من الصعوبة بمكان أن نحسم الخلاف حول المتنبي وسيف الدولة، ومثلما يقال عن أولئك يقال عن [حاتم] ومراتع شبابه، لقد كان للأمكنة عبقرياتها، وأثرها، والنقاد حاولوا استبانة ذلك التأثير، وذلك بدراساتهم لعبقريات الأمكنة وجمالياتها، ومدى التصاقها بمن كرسوا وجودها في إبداعاتهم. فهل صنع حاتم المجدَ للمكان أم أن المكان فتق ذهنه وأذكى حماسه وفجر مواهبه، وسلك به طريق الكرم. قبل التفكير في حسم مثل هذه التساؤلات السوفسطائية، دعونا ننظر إلى شاعرية حاتم من حيث الفحولة والسيرورة والكثرة، وموقف النقاد الأقدمين. وهل كان وحده المتغني بالكرم وجلائل الأعمال. المتفق عليه لدى المؤرخين للأدب ونقاده أن حاتماً من الشعراء المقلين، وأن شعره رقيق الحواشي، سهل العبارة، قريب المأخذ، وتلك سمات لا يتمثلها الشعر الجاهلي، ولكي نقطع دابر الشك في الشعر المنسوب إليه، وهو جاهلي قريب من البعثة، نشير إلى طبيعة المكان الذي درج على أديمه الشاعر، فالرقة والعذوبة تمد بسبب إلى طبيعة المكان وأهله، ومن جاس خلال الديار من قبل ومن بعد، يقطع بأن الرقة واللين من سمات تلك البقاع، ولأن حاتماً من الشخصيات التاريخية الذين يؤكد وجودهم عقبهم، فإن الإشكالية ليست في ذات الشاعوجوداً وعدماً، ولكنها في ذلك الشعر القليل الذي يمثل حياة الطائيين وأخلاقهم، ولا يمثل لغة الجاهليين ولا لهجة الطائيين، وحين أقطع بصحة ما نسب إليه من شعر، أجد من يقطع بوجود الشاعر، ويتردد في نسبة كل الشعر إليه. و[طه حسين] الذي شغل الناس وأسهرهم، توسل بأكثر من حجة، فالشعر الجاهلي المتداول لا يمثل حياة الجاهلية، ولغة الشعر المتسمة باللين وقرب المأخذ، لا تمثل لغة الجاهليين، والموضوعات والمعاني المطروقة لا تمثل ما عليه الجاهليون. ذلك قول [طه حسين]، وإذ نختلف معه في بعض ما يذهب إليه، إلا أننا لا ننكر أن المتداول من الشعر يغري بالتساؤل، ويحرض على الشك، فالحياة الجاهلية يصورها القرآن أدق تصوير وأشمله، فيما لا يصور الشعر المدون الحياة الجاهلية، وإذ لا نمضي مع [طه حسين] في إنكار الشعر الجاهلي، نجد أن لتساؤله نصيباً من المشروعية، ولقد تساءل من قبله النقاد والمستشرقون، وتساؤلنا عن سمات الشعر الحاتمي لا يعني الرغبة في توسيع هوَّة قاعدة الشك، ولكنه مجادلة معرفية للانطلاق من التسليم التقليدي، والخلوص من الزخم العاطفي، ورقَّةُ شعر حاتم وانقطاعه لمكارم الأخلاق في بيئة تختلف بعض الاختلاف عما ينطوي عليه شعره، تُشَرْعِنُ لمزيد من التساؤلات، ولاسيما أن صحراء الجزيرة لا تتوفر على دواعي الرقة والعذوبة، ولقد نسلِّم طوعاً أو كرهاً لمقولة: إن أهل الشمال يتمتعون برقة الحواشي، ودماثة الأخلاق، ولطافة المعشر، وكرم الحديث، واستباق التلطف مع الضيف، فذلك غالب طباعهم، ومن كانت تلك طباعة، رقت لغته، وعذبت لهجته، تلك الخصال تبرر هذه الرقة وتلك العذوبة. قلت: إن حاتماً من الشعراء المقلين، ولقد تقصيت في كتابي عنه ما نسب له ولغيره، وما نسب لغيره وهو له، وما نسب له وهو لغيره، واتضح أن خالص شعره لا يتجاوز بضع مئات من الأبيات، والملفت للنظر أن حاتماً حظي باهتمام الدارسين الأقدمين والنقاد المعاصرين، وطبع ديوانه عبر أكثر من عالم تراثي، وذلك الاهتمام مؤشر أهمية واهتمام، ومسرد نسخ الديوان المطبوع تجاوزت العشرة، وهو ما لم يتأتى لكثير من الشعراء الجاهليين، وأفضل التحقيقات والدراسات دراسة الدكتور [عادل جمال سليمان] وإن استدرك عليه علامة الجزيرة [حمد الجاسر] إلا أنه أثنى على جهده المتميز، واشتهار حاتم بالكرم، حمل الرواة إلى عزو المجهول من شعر الكرم إليه، وهم قد فعلوا مثل ذلك مع الشعراء المشهورين بالشجاعة أو بالغزل الكشوف. ولربما يكون الوحيد من بين شعراء الجاهلية الذين جاء الشك في بعض ما نسب إليه، وليس في أشعاره جميعها، ولأن حاتماً شاعر أصيل، وصاحبُ منهج شعري، فقد تعاقب النقاد على جعل شعره مقياساً لوصف بعض سمات الشعراء الشعرية. يقول حبيب:- [وكان أبو عمرو يشبه شعر النمر بن تولب بشعر حاتم] ولا يقاس على شعر ضعيف، أما عن رقة شعره فمرده إلى أن قبيلة طي قوية الصلة بالحواضر العربية في الشام والعراق، وقد أرجع علامة الجزيرة [حمد الجاسر] سهولة شعر حاتم إلى حضرية حاتم، فهو يسكن قرية ويستثمر نخلاً، ويخالط قوماً متحضرين، وإلى صلة قبيلة حاتم بالحواضر الشامية والعراقية، وقد أضفت إلى ملاحظة العلامة معرفة حاتم بالكتابة التي أشار إليها في بعض شعره، ولأن حاتماً فلاح كريم فإنه يقول:

إذا آزروا بالشوك أعجاز نخلهم

رأيت عذاقي بينها ماتؤزر

وإذا امتدت الأسطورة للصعاليك، فإنها قد امتدت إلى [حاتم] وهو حضري مزارع على علم بالكتابة، وقد يكون من أهل الكتاب كابنه [عدي] وقد أشار [النويهي] إلى أن الكثير من شعره موضوع، لتدعيم أسطورة الكرم عنده، الشيء الملفت للنظر أن شعره خال من اللهجة الطائية، وقد ناقش النقاد هذا الملحظ، وهم بصدد الرد على [طه حسين].

وشعر الطائي الذي تنبه له المؤرخون الأقدمون والدارسون التراثيون، ينطوي على خصوصيات لغوية ودلالية وإشارات حضرية، تجعله استثناء بين لداته ومجايليه من الشعراء الجاهليين. والمقاييس التي اتخذها المستشرقون والمتشايلون معهم لهز الثقة بالشعر الجاهلي، قد لا يكون تطبيقها على شعره دقيقاً ولا أميناً ولا عادلاً، ذلك أن تعميق الرؤية في تاريخ “طي” وتلمس خصائصهم الاجتماعية تمنح شعر حاتم وثوقية لا يتوفر عليها غيره، وما لم يعطه الدارسون أهمية في تفكيك شعره تنصر ابنه [عدي]. فشعر حاتم حافل بالقيم الغيبية والإيمانية، وذلك معطى نصراني، وليس انتحالاً. فالجاهليون مشركون، وليسوا أهل كتاب، مع أن لـ[أمية بن أبي الصلت] شعراً إيمانياً يفوق إيمانيات حاتم، إن تنصر [عدي]، ورفضه عبادة الأوثان دليل على وجود خلفية ثقافية، تختلف عن ثقافة جاهلية الصحراء. ولو نظرنا في شعر [عدي بن زيد] شاعر الحيرة المشهور، ورفض اللغويين أو بعضهم الاحتجاج بشعره لاتضح أن الشعراء القريبين من الحواضر، يرق شعرهم، وتلين عريكتهم.

ما نتوقف عنده تلك القصص الخرافية التي يستحيل وقوعها، أو تلك الأبيات الشاردة التي تستحيل جاهليتها. ونحن فيما سوى ذلك أمام شاعر لا ينازع في شاعريته، وأمام كريم لا يدانى في كرمه، فلنطرح المبالغات والمنحول، ثم لْنقطع بما سوى ذلك، وأي حساسية حول التساؤل، ستحول دون الوصول إلى الحقائق الجلية.

تلك عودة عجلى، إلى مراتع حاتم حاولنا فيها التوفيق بين وجهات النظر، وتظل مصلحة الشاعر مرتهنة بمزيد من الاختلاف، فلينم حاتم الطائي قرير العين وليسهر الأدباء والنقاد حول مجمل قضاياه ويختصموا، وفي النهاية يجتمع الخصوم حول الحقائق.

 

عودة إلى مراتع الطائي..!
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة