ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Monday 23/04/2012/2012 Issue 14452

 14452 الأثنين 02 جمادى الآخرة 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

عشقتُ الكتابةَ منذ بلغتُ ربيعي الخامسَ عشر، وكانت بادئ الأمر أسيرةَ (كراسة الإنشاء) في المرحلتيْن المتوسطة وجزءٍ من الثانوية، واستمرتْ خِلاًّ لي وأنا خلُّ لها، لم يهجرني الحنينُ لها قط ولم أهجْره أبداً رغم سنين الاغْترابِ في أمريكا طلباً للعلم، واقترنَ حنيني لها وقتئذٍ بالخشيةِ أن تُفقدَني سطوةُ اللغة الإنجليزية ولائِي للغَتِي الأم، أو تهمَّشَ الرغبةَ في استئنافِ الركضِ فـي مساراتِ حرفها الجميل بعد عودتي إلى حضن الوطن، وكان لتلك الخشية أكثرُ من سبب، فقد شغلتْني الدراسةُ فـي أمريكا عن كلَّ شيء، وفُتِنْتُ بها عن كلَّ شيء، وكان إنجازُها بنجاحٍ عندي كلَّ شيء!

كنتُ في صغري حَريصاً على البحْثِ عن متنفَّسٍ لقلمي وَسَط بيادر المفردة الجميلة، وشجّعني وسواي على ذلك النَّهجِ أساتذةُ الإنشاء الأجِلاّء (من أرض الكنانة)، الذين كان بعضُهم مفْتُوناً بـ(فَوضويّةِ) السَّرد والتحليق في سماواتِ (المحسَّنات البديعية) على الطريقةِ (المنفلوُطية) ليأتَيَ المعنَى والمغْزَى في المرتبة الثانية!

وعندما عدتُ إلى المملكة في صيف عام 1970م وبدأتُ (ماراثون) الوظيفة في معهد الإدارة العامة، عدتُ للقراءة المكثَّفةِ باللغة العربية، واستيقظَ في خاطري مُجَدَّداً الحنينُ القديمُ للغةِ الأجدادِ، والسّباحةِ بين شواطئِها، وكنتُ قد تعلّمتُ أصولَ الكتابةِ من خلال تعَامُلي مع الانجليزية لغةً وإنشاءً. اكتسبتُ منها عقْلانيةَ الطرح الذي يُوائِمُ بيْن طُمُوحِ القَلم وسَطْوةِ الكلمة وسُلْطَان العَقْل، ومن خلال تلك الممارسة اكتشفتُ عُمقَ الخطأ الذي ارتكبْتُه سنيناً في كتَابتي باللغة العربية، وهي النَّزْعةُ نحو الإسْهاب الممِلَّ بلا رايةٍ ولا غاية!

ووجدتُ ضالّتي في مجلة (اليمامة) إبّانَ ولايِة رئيس تحريرها الصديق الأستاذ محمد بن أحمد الشدي، الذي رحّبَ بي، مُعتَمِداً في ذلك على رصيدي السابق في دنيا الحرف قبل الرحيل إلى أمريكا، فانْطَلقْتُ بحمَاسٍ منذ ذلك الحين عبْر (اليمامة) وسواها، واصْطفيتُ لزاويتي الأسبوعية بدْءاً اسمَ (غصن زيتون)، وجدتُ في ظِلاله رمْزاً يجسَّدُ معنَى النُّورِ والسَّلام، باعتباري أطرحُ آراء ومواقفَ تمسُّ الهمَّ العام أو تَتَحدَّثُ عن خَصَائِص وإرهَاصاتِ النفس الإنسانية على نحوٍ لا يُحْرجُ أحداً أو يَجْرَحُه أو يُشَهَّر به. لم أقصدْ بـ(غصن الزيتون) قط أنْ يكونَ منبرَ مهَادنةٍ أو مصَالحةٍ مع مواقفَ تحتاجُ إلى مواجَهة عاقلةٍ مع بعض الظَّواهرِ الاجتَماعيةِ والسلوكيةِ التي أفْرزتْها نَقْلاتُ الطَّفْرة الحضارية في مجتمعنا السعودي، لكنّني كنتُ أتصدَّى لتلك الموَاقفِ بأسلُوبٍ بعيدٍ عن التوتَّر النفسي أو استعداءِ الآخر على حَسابِ الحقيقة!

ولَكَمْ أتمنّى اليومَ وكلَّ يوم أن يتصدَّى كتّابُنا الأفاضلُ لعيُوبنا الاجتماعية وممَارسَاتِنا السلوكية التي ينكرُها الدينُ والخُلق والعَقْلُ السويُّ بأسلوب يُؤَاخي بين الصَّراحةِ والعقْلِ وفعْلِ الخير، بدَلاً من أسلوبِ الكرّ والفرّ استفزازاً للغير أو استهلاكاً لشَهوةِ الحرفِ وتحريضِ النَّفسِ الأمّارة بالسوء (أحياناً)!

وهنا، قد يسأَلُ سائلٌ: مَن الذي حرّضني على الكتابة بدْءاً، فأقول: كثيرُون، منهم مَنْ غيّبَهُ الرَّدى، ومنهم مَنْ ينتظر، وكان سيدي الوالد طيَّب الله ثَراه متحفَّظاً بَصمْتٍ بادئَ الأمرِ على خَوْضِي عُبَابَ الكتابةِ خَوفاً عليّ من سَعير الكلمةِ وشَقَائها، ومنه غَزتْني عَدْوَى القراءةِ الجادّة في سنَّ مبكرة، إذْ كان رحمهُ الله شغُوفاً بها، يمُضي في رحَابِها سَاعاتٍ طِوَالاً ليلاً ونهاراً، بلا كَللَ ولا مَلَل، وكان يقرأُ بنَهَمٍ للعقاد وغيره من أساطين الفكر، قديمِه وحديثِه، وعبثاً حاول أن يؤلَّفَ بين عقْلي المتواضع وأدب العقاد، فلم يُفْلحْ، مثلما حاولتُ إغْواءَهُ بأدبَ طه حسين فلم أُوفَّقْ! كنتُ شغُوفاً بحرف عميد الأدب العربي طه حسين ومصطفى المنفلوطي وأحمد حسن الزيات رحمهم الله جميعاً، وكان والدي مفْتُوناً بأدبيات عباس العقاد وأحمد زكي، وصاحبِ الأغاني والجاحظ وغيرهم! كان يقرأُ التاريخَ بشغفٍ.. وكان يُبْدِع في روايته له، فيأْسرَ المنصتين له من جِيلَيْ الشباب والشيُوخ!

وبعد..،

أخلصُ مما تقدّم إلى النتيجة بأن عِشْقَ الكتابة وممارستَها لا (يغزُو) المرء المستهدفَ بين عشيّةٍ وضُحاها، ولا يُولد في أحضَان (كراسة الإنشاء) وحْدَها، رغم أنها أحياناً، قد تُرسِلُ الصرَّخةَ الأولى لميلادِ أديبٍ أو شَاعر! وأُوصي مَنْ يروم اقتحامَ هذا الميدان بالقراءةِ الجادةِ مرّاتٍ ومرّاتٍ قبل أن يكتبَ نصّاً واحداً مرةً واحدةً! فمشوارُ النصَّ الناجح يستحقُّ (رحلة الألف ميل)!

 

الرئة الثالثة
مشوار الحرف الجميل يستحق رحلة (الألف ميل)!
عبد الرحمن بن محمد السدحان

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة