نكتشف متأخرين أننا أسرى لصور ذهنية مغلوطة متراكمة تكوَّنت نتيجة لمعلومات هي مزيج من إشاعات وأنصاف حقائق وأحياناً أكاذيب كاملة ومطلقة! وقد كانت الصورة الذهنية التي أحملها عن «سري لانكا» أبعد ما تكون عن حقيقة هذا البلد الجميل رغم أنني عرفت خلال السنوات الماضية الكثير من أبناء ذلك البلد بدءاً من عمالة منزلية بسيطة ومروراً بأصحاب مهن أخرى، منهم الأطباء والمهندسون والإداريون، وانتهاءً بشخصيات كبيرة؛ مثل بعض سفراء «سري لانكا» السابقين لدى المملكة ووزراء عمل ممن زاروا المملكة أو حضروا الملتقيات والمؤتمرات في منظمة العمل الدولية وفي غيرها.

تذهب إلى «كولمبو» وإلى «كاندي» و»بينتوتا» و»نواراليا» وغيرها من مدن ذلك البلد فلا تكتشف جمال المناظر الطبيعية الخلابة فقط، ولا الطيبة المفرطة والمعاملة المهذبة المتسامحة في سلوك الناس وفي ابتساماتهم التي يستقبلونك بها كلما تحدثت إليهم.. وإنما تجد أيضا أن الشوارع نظيفة وأن الناس لا يرمون القمامة من نوافذ السيارات.. صحيح أن شوارعهم وطرقاتهم ضيقة ومزدحمة لكنها نظيفة تزدان بالأشجار ويغسلها المطر كل يوم ولا تختنق بالدخان والأبخرة والغبار ولا ترتفع فيها أصوات سائقين متوترين يقودون سيارات باذخة ويتحدثون بنبرة استعلائية.

قضيت الأيام القليلة الماضية في ذلك البلد الجميل، واكتشفت أن الدنيا أوسع من توقعاتنا وأفكارنا المسبقة. قابلت أناساً من مستويات مختلفة وتناقشت معهم عن أحوال البلد بعد انتهاء حرب الثلاثين عاماً مع نمور التاميل، وقرأت صحف البلد بما فيها صحف المعارضة والصحف المحايدة والصحف الموالية لحكومة الرئيس ماهيندا راجاباكسا.

أدهشني الوضع الاقتصادي للبلد، فحسب تقرير البنك المركزي السيرلانكي الذي نشرتْ تلخيصاً له صحيفةُ The Nation السيرلانكية الصادرة بتاريخ 15 أبريل الحالي فقد بلغ معدل النمو الاقتصادي خلال العام الماضي 8.3%، علماً بأن هذا المعدل خلال السنتين الماضيتين لم يكن أقل من 8%. أما معدل البطالة فهو 4.2%. وكان معدل التضخم خلال شهر مارس هذا العام 5.5%.. وكلها أرقام ما بين معقولة إلى ممتازة.

من ناحية أخرى، أشار تقرير البنك المركزي إلى أن من المتوقع أن تنخفض هجرة العمالة السيرلانكية إلى الخارج خلال الفترة القادمة بسبب حاجة الاقتصاد السيرلانكي إلى هذه العمالة! وقد بلغت تحويلات العمالة السيرلانكية التي تعمل في الخارج 4.1 مليار دولار أمريكي عام 2010، وبلغت 5.1% مليار دولار عام 2011، ومن المتوقع أن تزيد هذا العام.. وتعتبر تحويلات العمالة السيرلانكية من الخارج أعلى موارد البلاد من العملات الصعبة، وهي بذلك تتفوق على إيرادات صناعة الغزل والنسيج والملبوسات!

ومن اللافت لانتباه زوار البلاد الاهتمام بالمباني القديمة والمتاحف.. وتكاد تكون هناك متاحف لكل شيء! فعلى امتداد الطرق القديمة الضيقة التي شقها البريطانيون عندما كانوا يستعمرون البلاد تجد متاحف للمعدات والأجهزة التي تم استخدامها لبناء تلك الطرق.. ويعود بعضها إلى حوالي مائتي عام! كما تجد في المصانع والمعامل وفي بعض الفنادق القديمة أقساماً يتم فيها عرض معدات وأجهزة منذ أيام البريطانيين والبرتغاليين والهولنديين قبل مئات السنين.. وكلهم مروا بسري لانكا وغزوها واستعمروها! أما المباني القديمة، فيوجد منها في العاصمة وغير العاصمة عددٌ كبيرٌ جداً.. ولا زالت محتفظة بنضارتها وجمالها رغم مرور عشرات ومئات السنين على إنشائها.. وبعضها لا زال يُستخدم لنفس الغرض الذي أنشئ من أجله منذ ذلك الوقت البعيد!

وهناك الجانب الثقافي.. حيث يقدم المسرح الشعبي في جميع أنحاء البلاد عروضاً فلكلورية جميلة. أما الحدائق الوطنية الكبرى والمحميات الطبيعية فيوجد منها الكثير.. وقد أدهشني اهتمامهم بهذه الأمور التي لا زال الكثيرون منا يعتبرونها من الكماليات غير الضرورية وأحياناً الضارة!

«سري لانكا» كانت مفاجأة كبيرة لي ولزملائي رفاق الرحلة.. ربما لأن الصورة الذهنية عنها أساساً مغلوطة.. علماً بأن ما يمكن كتابته عن هذه البلاد يفوق مساحة هذا المقال أضعافاً مضاعفة.