ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Tuesday 24/04/2012/2012 Issue 14453

 14453 الثلاثاء 03 جمادى الآخرة 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

(المشكاة) من الكلمات الجميلة في اللغة العربية من حيث الشكل والمضمون. خفيفة النطق جميلة الجرس، اسم آلة لا يُوجد له فعل ولا فاعل ولا مفعول. وهي لا تعني الفتيل ولا تعني القنديل بل تعني ما يشع منهما معاً إذا ما اجتمعا، والضوء المشع غير ملموس، وغير واضح المصدر، تحس

به بمهجتك لا بعينيك، ضوء هادئ يُضفي على ما حوله هدوءاً وسكينة بندى الفجر. وقد وردت كلمة المشكاة في آية من كتاب الله الحكيم فيا صورة جمالية إعجازية تصوّر نوره جلّ وعلا الذي يهدي به عباده ويدخل الطمأنينة إلى قلوبهم على إنه كالمشكاة: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة النور.

وبسبب هذا التصوير الرائع لنور لم تمسسه نار، يُوقد من شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية، مشكاة فيها مصباح والمصباح داخل زجاجة، ضوء إيماني يهدي الله به عباده، بسبب هذا المعنى البلاغي الإعجازي الجميل أسلم كبار فلاسفة وفنانين منهم موريس بيجار، ومراد هوفمان وغيرهما، فقد تخيّلوا الإيمان يشع في قلوبهم ويملؤها بالسكينة والطمأنينة، والسلام، وعرفوا أن الإيمان بالله في الإسلام يعبر القلب مباشرة دونما وسيط أو وساطة، وأن الله يصطفي من يشاء بنوره.

وللقناديل والمصابيح موقع خاص في الثقافة والفن الإسلامي، فقد حرص المسلمون، بسبب تجنُّب التجسيد والتصوير الحي في عمارتهم أن يهتموا بالضوء، ومداخله، ومساقطه، والزخارف الجميلة التي تجسد انعكاساته.. ولذلك تجد مداخل الإضاءة الطبيعية العنصر الأهم في كل مشروع كبير من مشاريع العمارة الإسلامية.. فالقبب في المساجد، والمصابيح، والثريات المعلّقة ترمز لمشاكٍ تحاكي نور الله في الأرض، وتشع إيماناً في بيوته.

وقد دُعيت مؤخراً لافتتاح مشروع استثماري وثقافي جريء لقاعة فنية أُطلق عليها اسم “المشكاة”، قاعة فنية بُنيت بجهود سعودية خالصة بهدف بث الجمال والفن فيما يحيط بها من مجتمع راكض لاهث بشكل لا يتوقف وراء كل هو مادي، وحسي. وهناك شاهدت مجموعة كبيرة من الفنانين السعوديين يتبادلون التحيات والأفكار حول اللوحات الجميلة المعلَّقة على الحيطان الناصعة البياض، أما تصميم القاعة فقد كان جميلاً في بساطته يحسسك بأن كل شيء وضع في مكانه بعناية فائقة.. فالزائر يحس بجمال هادئ بسيط، وراحة شاعرية لا يعرف بالضبط ما مصدرها.

وقد جمع الافتتاح بين جمال الشكل وجمال المعنى، ففي لفتة إنسانية رائعة، دُعي لافتتاح القاعة شخصية ملكت حساسية الحرف وجمال الكلمة، شاعر أنحل جسده الرقيق قلبه الجريح، وهو الشاعر بدر بن عبد المحسن. فقد دُعي ليشرف الحفلة وفاء لدوره المهم في إنشاء جمعية الفنون السعودية. وكان افتتاح جميلاً بسيطاً، بدون قص أشرطة أو خطب، افتتاح تمازجت فيه الذائقتان الشعرية والتصويرية، وكان مريحاً وخالياً من التكلُّف.

ما شاهدته حقيقة أثار إعجابي لأن الاستثمار في صالة للعرض الفني يُعد استثماراً في ذائقة المجتمع وحسه الفني، وهو “مشكاة” جمالية فعلية في حي يعج بالمطاعم والبقالات التي تخاطب الأحاسيس والغرائز البدائية للبشر، والمحلات التجارية التي تنمي الروح الاستهلاكية فيهم. وبكل صراحة وتجرُّد فهو استثمار عالي المخاطر لأننا ما زلنا لم نخرج بشكل مؤكد من طور الأكل والاستهلاك بعد.

ليست هذه القاعة هي القاعة الفنية الأولى التي أدخلها، ولا المعرض الأول الذي أحضره فقد حضرت نشاطات مشابهة مختلفة كثيرة، ولكنها آلت إلى الاختفاء وللأسف، لأننا نقدم للثقافة والفنون الدعم اللفظي فقط، أما الدعم الحقيقي فيذهب لأنشطة تدور حول حمى الثقافة، ولا تدخل في صلبها. ولذلك لا تملك إلا الإعجاب بإصرار شبابنا على الاستمرار في جهودهم في طريق غير معبَّدة أمامهم. وقد سبق وكتبت، وسأكتب مرة أخرى بأنه إذا كان الاقتصاد جسد الأمة، والعلم عقلها، فالفنون هي روحها، وهي المشكاة الوحيدة القادرة بضوئها الجميل وعبقها التاريخي على عبور الفضاء إلى قلوب الشعوب الأخرى، وهي أفضل وأنجع وسيلة للحوار معها. فلغة الفن تعني ولا تتكلم، تحاور ولا تجادل، تغري ولا تخيف.

الناس في الخارج غير معنيين بما لدينا من كيانات إسمنتية حتى ولو كانت الأعلى في العالم، والأكبر في الكون، أو الأحدث على وجه البسيطة لأنهم في النهاية يعرفون أنهم مَنْ صممها، وهم مَنْ نفذها، وهم مَنْ أنتج مكوناتها، فلا يمكن أن نعتبرهم أغبياء بالشكل الذي نعرض لهم شيئاً أنتجوه هم على أرضنا. هم لا يريدون أن يعرفوا الشوارع فشوارعهم أكبر وأفسح، ولا القصور الجميلة لأن لديهم قصوراً أكبر وأجمل وأكثر عراقة، ما يريدون أن يروه هو الإنسان، طريقة حياته، وتعامُّله، وروحه وفنه. وهم يدركون أن الفن شيء متأصّل خلقه الله في ذات الإنسان “فالله جميل ويحب الجمال”، وقد احتج كبار الفنانين العالميين على نعت الشعوب الأخرى بالبدائية، لأنهم يدركون أن لها فنوناً جميلة معقَّدة في بساطتها، وقد قال بيكاسو عن الفن الأفريقي بأنه أصيل ويفوق الفن الأوربي أصالة، وإدارك هذه الحقيقة هو ما جعل الفنانون، والكتَّاب، والمفكرين يطالبون جيوشهم بالتوقف عن قتل هذه الشعوب، وعملوا على إبراز فنها.

والفن يهذب الروح المستأحشة، المتوحشة، ويرهف إحساس القلب الغليظ، ويجعل الفرد محباً للحياة من حوله، فقد قال شاعر العروبة إيليا أبو ماضي:”كن جميلاً ترى الوجود جميلاً”. فالإنسان العنيف هو الإنسان الفاشل ذوقياً، الإنسان الذي لا يرى الجمال من حوله، وحياته تدور في محيط إشباع غرائزه فقط. والفن هو المهذب الأول للنفس، وتحرص الدول المتقدمة على تنمية الذائقة الفنية للنشء في تعليمه المبكر، أي أنها تعد الفن مكوناً أساسياً من مكونات الأخلاق. ونادراً أن نسمع عن فنان إرهابي، بل دائماً ما نسمع عن فنانين ناضلوا وماتوا ضد الإرهاب.

ويحتفل متحف شيكاغو سنوياً في احتفال كبير بلوحة واحدة هي “القراند جات” لجورج سيورا، اشتراها أمريكي بثمن بخس من فرنسا في القرن الثامن عشر، ومن ذلك الوقت وآلاف الزوار يؤمون المتحف من كل الأصقاع لمشاهدة هذه اللوحة فقط. وعلى المرء أن يتخيّل عدد الزوار في متحف اللوفر، الذين وفدوا لتأمُّل لوحة الموناليزا ليعرف الأهمية العالمية للفن، ويعرف أن الفن تاريخ في ذاته. وهنا عندما تتحدث عن لوحة فنية تعبر المحيطات لتؤسس لمتحف فإنك تتحدث عن مفهوم واضح لعالمية الفن، وليس مفهوماً مُبهماً مُضبباً.

مما يُؤسف له، وهو أمر معيب حقاً، أن نملك هذه الثروات، ونحن أغنى بلد في العالم، ونقتني كل نفائس الأرض من مجوهرات، وسيارات، وطائرات، ويخوت، ومستهلكات أخرى، وليس لدينا متحف للفنون الجميلة، أي ليس لدينا مشكاة كبيرة نعرض فيها ما أنتجته قرائح شبابنا، نفاخر ونباهي بها، ونعرض فيها الأعمال الفنية العالمية التي تثبت فعلاً ارتقاء ذائقتنا إلى مستوى عالمي. وقد سمعت قصصاً كثيرة عن دبلوماسيين أجانب يشترون لوحات فنانينا المميزة، والتي هي ورود حديقتنا الفكرية ويرحلون بها لبلادهم ليأتي يومٌ نستجديها منهم بأثمان مضاعفة لنعرضها لأجيالنا القادمة، مثل ما نتوسَّل منهم اليوم الخيول العربية الجميلة التي منحناها لهم في وقت ما مجاناً لنعود وندفع الملايين لشراء سلالاتها.

وللمتاحف بكافة أنواعها مهام تربوية تعادل المدارس، لأنها تجمع أجمل ما ينتجه الإنسان، وعادة ما يصحب المعلمين الطلاب لها ليشاهدوا، ويتذوقوا، ويحاكوا محتوياتها، وهي تخلق لديهم الدافع للإبداع. فدعونا نرى الجمال في ثقافتنا، ونبني مشكاة حقيقة للفنون في بلادنا، مشكاة تشع على العالم بأصالتنا ووجداننا، وهذا هو الطريق الوحيد للعالمية.

latifmohammed@hotmail.com
Twitter @drmalabdullatif
 

المشكاة
د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة