ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Tuesday 01/05/2012/2012 Issue 14460

 14460 الثلاثاء 10 جمادى الآخرة 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

وحين يبطئ بنا الاستطرادُ عن تحديد تلك المفاهيم، ينتابنا تساؤل آخر، عن المقصود بالتحوُّلات النقدية, بوصف الشباب من المصطلين بجدلها، ومن المبادرين إليها, والمحتفين بها، على علم، وبغير علم، وبعقل متأنٍّ وبعاطفة جموح.

الشيء المتفق عليه أنّ الحياة بكل تشكلاتها في حراك مستمر، كما النهر الجاري، لا تستقر على حال، والذين يتردّدون في قبول التحوُّلات, يجدون أنفسهم في أُتونه عاجلاً، أو آجلاً, طوعاً أو كرها. إذ لا مكان للتردُّد, ولا للتحفُّظ, وشرط القبول والتسليم استيعاب المستجد, والتعرُّف على تفاصيله, قبل الدخول فيه. فنحن أمة لنا حضارتنا، وخصوصيتنا, شأننا شأن كل الحضارات. ونحن مطالبون بتمثُّل تلك الحضارة, وتكريسِ مبادئها، ومتى قضى الله ورسوله أمراً, فلا خيرة. غير أننا - وتحقيقاً لسنّة الصراع - لا نكاد نتفق على مقتضى الأمر, ولا على محققات القضاء. بحيث نجد أنفسنا مع التسليم لقضاء الله ورسوله في جدل متنامٍ، فالمحافظون والمقلِّدون والمجدِّدون يتسلّحون بنصٍّ تشريعي حمَّال، ثم لا يتفقون على مقتضاه، لأنّ كل فئة تقرؤه بطريقتها, وعلى ضوء نسقها الثقافي, وحتى القراءة [المحايثة] بوصفها قراءة للنص في ذاته, لا تسلم من نص مراوغ أو حمَّال. ولو أنّ كل الأطراف استوعبوا متطلّبات المرحلة، ومحققات الحضارة, وحتمية الاختلاف, لكانوا أكثر تعاذراً وتقارباً. وإشكالية الصراع أنّ بعض الأطراف تركنُ إلى الادعاء وحده، وحين يحتدم الخلاف, لا يذعن الجميع للمرجعية، إمعاناً في المكابرة.

لقد كانت لي إلمامات سابقة حول تحوُّلات [مركز الكون النقدي]، وليس هناك ما يمنع من الإشارة إليها، للوقوف على دور الشباب فيها.

فحين نقطع بأنّ [مركز الكون النقدي] مرَّ بثلاثة تحوُّلات رئيسة، أغنته ورفعت من وتيرة خطابه, فإننا نشير إلى تأثير التحوُّلات الحديثة في النقد الغربي على كل مسارات النقد العربي الحديث.

ولما كان جيلُ الانطلاق جيلاً شبابياً، كان بعضه منفتحاً على كافة المستجدات، متفاعلاً مع كل التيارات, متمكناً من الوصول إلى مصادر تلك التحوُّلات, عن طريق البعثات أو الترجمة. وإذ لا نعيب تواصل الحضارات, وتلاقحها، وتسديد بعضها لبعض على مختلف الصُّعد، فإننا لا نقبل التبعية, ولا الاندفاع غير المحسوب، ولا الانسلاخ ولا الانمساخ، كما لا نرضى النّيل من التراث ولا تهميشَه, وفرق كبير بين الرحيل به، والرحيل إليه، والانقطاع له، والانقطاع عنه. إنّ التجديد لا يعني نبذ القديم، ولكنه يعني إضافة ما هو بحاجة إليه. وإشكالية بعض الشباب الاهتياج الأعزل, والاندفاعُ الأرعن، ومع تلك الهنات المتوقعة، فإننا نجد التواصل مع المستجدات الغربية, قد أتت ببعض ما نرجوه، وحفزت حراس التراث على إعادة قراءته, وإبراز كوامنه، وإضافة ما هو بحاجة إليه. لقد سار التراث جنباً إلى جنب مع المستجدات, وتفاعل معها، ولقد يكون للنقد الأكاديمي قصبُ السبق في هذا المجال، فهو قد استحضر علم الآلة النقدية, كـ (البلاغة) و(النحو) و(الصرف) و(العروض) وسائر مناهج النقد القديم, بوصفها ضوابط تُمَعْيِر النقد العربي المعاصر, ليكون نداً للنقد المعياري الغربي, ولم يتردّد في اللحاق بما تيسّر من المستجدات, والأخذ منها بمقدار، وإن كان ثمة عتبٌ - وكنَّا من المعتبين - فهو مُنْصَبٌّ على الذين غيّبوا المصطلح النقدي في التراث، وأحلوا مكانه ما جدَّ من مصطلحات نقدية, قد يغني عنها ما سلف، وليس هناك ما يمنع من تمكين المصطلحات النقدية التراثية من الحضور والمشاطرة, فهي أولى بمشاهدها.

والشباب بوصفه متلقياً طيعاً للمستجدات, لم ينج من مُنازعة النقد المحافظ أو المجدّد بمقدار, وهو تنازعٌ يراوح بين الموضوعية والعاطفية, وأياً ما كان الأمر, فإنّ التحوُّلَ فرضَ نفسه، وأصبح من المسلّمات، ومقياس الوضع السليم ينطلق من التوازن والوسطية, إذْ لا عبرة بالشباب المندفعين, ولا بالكهول المنكفئين. إنّ هناك أكاديميين ونقاداً شباباً استطاعوا بموضوعيتهم وواقعيتهم, أن يوائموا بين التراث والمعاصرة، وأن يأخذوا من كل شيء بطرف. ومع هذا فالخلاف قائم, وسيظل. لأنّ الصراع عصب الحياة، وأزعم أنه في النهاية محسوب للمشهد الأدبي, وليس محسوباً عليه.

وعلى ضوء ذلك فإنّ أقصى ما نملكه توصيف تلك التحوُّلات على ما هي عليه، وإن أمكن تقويم المواقف, بما لا يصعَّد الخلاف، كان أجدى وأهدى، وتوصيف تلك التحوُّلات تجعلها حاضرة المشهد, ومكملة للحديث عن الشباب وعلاقتهم بالنقد الحديث، بوصفه خطاباً قائماً ينتابه الشيوخ والكهول على حدٍّ سواء، وأملاً في أن يعيد الشباب حساباتهم إزاء المستجدات، ويرتبوا أوراقهم لمواجهة الطرفين: المحافظين الذين يرفضون كل جديد, والمجدّدين الذين يرفضون كل قديم.

بعد تلك المقدمة [الخلدونية] أشير إلى أنّ المستفيض في الوسط الأدبي تَنَقُّل [مركزِ الكون النقدي] بين:

- المبْدع.

- والنص.

- والمتلقي.

وفي كل حقل تتجلَّى المناهج والآليات التي تخدم المتمركز في هذا الكون، وتحقق وجوده, طاغياً على سائر الحقول المشاركة له.

لقد كان النقد من قبل مرتهناً لـ[لمبدع] دون غيره من أطراف العملية الإبداعية. بحيثُ تجلّى سلطانه، وانطلق الناقد منه, وعاد إليه, فكان المنهج التاريخي، والمنهج النفسي والمنهج الاجتماعي، وكافة الاهتمامات المتعلّقة بتجلية كل أشياء المبدع. حتى لقد غُيِّب [النص] و[القارئ] معاً. وطغت كل محققات المنتج, فكأنّ الناقد والدارس موكلان بكتابة سيرته. واستمر ذلك الاهتمام طوال مرحلة الريادة النقدية، بوصفها امتداداً للحركة النقدية في مصر والشام والعراق، التي أعقبت حملة [نابليون]. وكل المستجدات داخل سلطان المبدع تكرّس وجوده, واستدعاؤها لمزيد العناية به، فـ[المنهج النفسي] مثلاً الذي تبنّاه [النويهي] و[العقاد] و[المنهج الاجتماعي] الذي تبنّاه [طه حسين] وحتى [لانْسُونية] [محمد مندور] جاءت كلها لتساعد على التماس حياة الشاعر من شعره. فهو إذاً جزء من الاهتمام بالمنتج. وروّاد النقد في المملكة ترسّموا خطى من سلف, ولم يضيفوا شيئاً, فكان [تاريخ الأدب الحديث] رصداً لمراحل حياة الأديب، وإن فرغ النقّاد شيئاً قليلاً للشرح, تحقيقاً لمهمة التوسُّط بين المنتج والمتلقّي، وتلك ممارسة ساذجة, لا تتجاوز تقريب الدلالة للمتلقّي, وإذا قيست بما يقال عن المنتج، لا تكون شيئاً مهماً.

ولما بدأت مرحلة التأسيس للحركة النقدية، كان الغرب قد نقل مركز الكون النقدي من [المنتج] إلى [النص]، فكان أن هُمش المنتجُ, وبلغ تهميشه حداً لا يحتمل, حيث كرَّسَ الإمعانَ في إقصائه مصطلحُ [موت المؤلف] ولكي يهيمن النص, جاءت المناهج اللغوية، كالنصوصية والأسلوبية والبنيوية والتحويلية والتفكيكية والقراءة [المُحَايِثة]، وبرزت أهمية اللغة بوصف النص كياناً لغوياً، ولقد مارس الشبابُ هذا الدورَ جنباً إلى جنب مع المؤسسين للحركة النقدية، وعماد التأسيس: المعرفيةُ والمعياريةُ, وتحريرُ المصطلحات, والحدُّ من الانطباعية والذوقية. وفى ظل الاهتمام بالمعيارية والشكلانية، فَقَدَ النقدُ شيئاً من فنيته, بوصف الناقد رديف المبدع، وحين اختفى المنهج النفسي, حلّ مكانه المنهج الجمالي، وسائرُ النظريات الجمالية، و[المنهج الثقافي] ومناهج أخرى، لم تَرْق إلى حد الظواهر, لأنها أكثر لصوقاً بالنص, وأقدر على تكريسه واندياحه، ولم يتلبث [مركز الكون النقدي] في رحاب النص، بل تخطّاه إلى [المتلقي] الذي أصبح سيد الموقف، غير أنّ الناقد, وهو يلغي سلطة المبدع والنص, توسّل ببعض المناهج اللغوية، لتمكنه من التفكيك والتأويل، وتحقيق رغبة المتلقي في إنتاج الدلالة التي يتطلّع إليها، وتبع ذلك ظهور مصطلحات واختفاء أخرى، فيما تهافت المنظّرون على الدفع بنظريات هلامية، تصب في مصلحة القارئ، وتلغي المنتج، وتهمش النص بوصفه رسالة، وتحويله إلى مجرّد مثير، لإنشاء دلالات لم تخطر على بال المبدع، وقد لا يحتملها النص. وهذا من باب التحريف الذي أشار إليه الذِّكر الحكيم. والنص بوصفه رسالة المنتج إلى المتلقي, وبوصفه كياناً لغوياً، أصبحت السيطرة عليه من خلال المناهج اللغوية الجديدة كـ [علم الدلالة], ومن ثم كان سلطان المتلقي امتداداً لسلطان النص، والفاصل بين السلطتين: سلطةِ النص وسلطةِ المتلقي، تكمن في المقاصد والغايات, وهي في النهاية من المضمرات المخبوءة، ولا تتميّز إلاّ من خلال مآلات القراءة وأهدافها. وأياً ما كان الأمر فإنّ للشباب دورَهم الأهمَّ في تلك المهايع, وكل الذي نتطلّع إليه أن يكونوا في ظل هذه التحوّلات واعين لمهماتهم، مدركين لأبعاد المناهج والمصطلحات، متفاعلين معها بوعي, مسيطرين عليها باقتدار. ولكيلا نؤخذ على غرّة، فإنّ علينا أن ندرك الظروف والحواضن التي أنتجت تلك المذاهب، وتلك المناهج. فـ [التفكيكية] التي تلقّيناها بالقبول، نشأتفي ظروف مشابهة لظروف [التأويلية] التي نشأت في التراث. لقد وجد العقل المتعالي نفسه محرجاً أمام النص المقدس بكل قطعياته، فهو لا يقدر على إجهاضه لِيُمضي رؤيته، ومن ثم توسل بالتأويلية ليجهض قطعية الدلالة والثبوت, مع الاحتفاظ بقدسية النص, على حَدِّ زعم المعتزلة والفلاسفة والباطنية. وكذلك [التفكيكية] حملت ذات الهم أمام النص [التوراتي], فهي لكي تنشئ دلالة مغايرة, توسّلت بهذا المنهج التفكيكي. وعلى ناشئة الأمة أن يضعوا في اعتبارهم محققات حضارة الانتماء, وهم يستقبلون المستجدات النقدية, فالاستقبال الواعي, والتفاعل الإيجابي من مقوّمات الحضارة الواعية لمهماتها في الحياة. الشيء المغيّب تراثنا النقدي, بكل غناه, وتنوُّع آلياته ومناهجه، والعيب المجهول العجز عن السيطرة على محدثات المناهج والآليات، والتعالق معها دون استيعاب، ودون فهم, ودون سيطرة. ومعتصر المختصر تمكين التراث النقدي من الحضور بنديَّة وتكافؤ, واختراق أجواء الآخر به، وتصوّره على ما هو عليه، وتوطين النفس على أنّ الحضارات تتقارب، وتتفاعل، وتتبادل المعلومات والآليات والمناهج، وفي النهاية ليس هناك نص بريء, ولا حضارة بريئة، والحضارات والديانات تُتَمِّم بعضها، وكلٌ يؤخذ من قوله ويترك، إلاّ من لا ينطق عن الهوى.

 

الشباب والخطاب الأدبي المعاصر البُعد النَّقدي 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة