ارسل ملاحظاتك حول موقعنا

Thursday 03/05/2012/2012 Issue 14462

 14462 الخميس 12 جمادى الآخرة 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قلنا مراراً في صفحات هاته الجريدة الغرّاء، إنّ المسلمين لم يكن لهم مشكل في الحوار ولا في التعايش السلمي، ولا في بناء الأسرة الإنسانية الواحدة، ولا البيت المجتمعي المشترك، انطلاقاً من تعاليم دينهم الحنيف؛ فلقد التقى المسلمون بعد فتوحاتهم على امتداد

القرن الأول الهجري، مع شعوب كانت على جانب كبير من الحضارة وازدهار الثقافة، كالفرس والرومان والهند، فكانت المرحلة الأولى لهذا اللقاء مرحلة تصادم وصراع بين الفريقين. وبرغم تفوُّق هذه الشعوب حضارياً يومئذ، فإنها أذعنت لسلطان الإسلام السياسي، فغدت تابعة لدار الخلافة في المدينة أو دمشق أو بغداد، لكن في مقابل هذه السيادة العربية السياسية الدينية، ظلّت حضارات البلاد المفتوحة وثقافاتها هي صاحبة السيادة. وهو ما جعل البعض يقول بحق: “إذا كان المسلمون قد فتحوا بلاد الأعاجم دينياً وسياسياً، فإنّ هؤلاء الأعاجم قد فتحوا عقول العرب ثقافياً وحضارياً”، وهو ما يعني أنّ الحوار الثقافي والحضاري بين العرب والفرس والرومان وغيرهم كان ضرورة حتمية، بالرغم من الإقرار بأنه لم يكن سهلاً، ولا تحقق بوفاق أو تسامح في بداية الأمر، وإنما نتج عن مخاض وصراع دام أكثر من قرنين أو يزيد.

وقبل أيام ذكّرني وزير الإعلام السابق والمفكّر المغربي الكبير محمد العربي المساري بسابقة وقعت في تاريخ المغرب، أشهرا قبل استقلاله، وكان قد كتب كما كتبت عنها بإيجاز إذ في فاتح دجنبر 1955، بعد أسبوعين من عودة محمد الخامس من المنفى وبضعة أشهر قبل استقلال المغرب، شهد القصر الملكي احتفالاً فريداً من نوعه، إذ إنّ العاهل العائد لتوّه من المنفى، ترأس يومذاك مراسيم توشيح المونسينيور أميدي لوفيفر، القاصد الرسولي بالرباط بالوسام العلوي بدرجة ضابط كبير، عرفاناً بجهده في إقرار التفاهم بين المغاربة والفرنسيين أثناء الأزمة الحادة التي تميّزت بها الفترة الأخيرة من العهد الاستعماري. وقد حرص محمد الخامس على أن يولي الأسبقية لتلك البادرة في جدوله الزمني، وهو منهمك في تشكيل الحكومة التي كانت ستنهض بالتفاوض على الاستقلال.

وكان ذلك العمل الرمزي ذا أهمية في انشغالات المغاربة، غير أنه كان في حد ذاته تكريساً لسلوك استقر في عمل الحركة الوطنية المغربية منذ الثلاثينيات، من القرن الماضي. ولم يكف الوطنيون قط عن إقامة حوار متدفّق مع النخبة في كلٍّ من فرنسا وإسبانيا، قصد إقامة جسور للتفاهم والتعاون. والدليل على ذلك مسارعة كتلة العمل الوطني إلى تأسيس مجلة “مغرب” في باريس، وذلك من أجل أن تكون منبراً للحوار.

ولقد تعرّض الأستاذ محمد العربي المساري في كتاباته لذلك الخيط من الحوار الذي استمر، وأعني الحوار الذي أجري مع فرنسا، وبالذات مع الكنيسة، مذكّراً بأنه كان طريقاً ملتوياً وصعباً، ولكنه أدى في النهاية إلى انتصار الإرادات الحسنة.

كان ذلك الحوار الأول من نوعه. وتواصل في لحظات صعبة، بل في أوقات أزمة، حينما كان التوتر مع الحماية الفرنسية في المغرب قد وصل إلى أوَجه، وهنا تكمن قيمته. وكان فيليكس ناتاف على حق حين قال في كتابه حول استقلال المغرب إنه في الأوقات الصعبة يلزم إجراء الحوار. وكان يلمح بهذه الإشارة إلى أنّ البعض كان قد اعتراه التردُّد حينما برزت مبادرة ترمي إلى تأسيس جمعية تتألف من مسيحيين ويهود ومسلمين بالدار البيضاء في سنة 1950 لأجل الحوار.

ولكن ما إن حلّت سنة 1951 حتى كانت قد تأسست جمعية من الأطراف الثلاثة المذكورة، حملت اسم الصداقات المغربية، وهي التي واصلت الحوار في ظروف صعبة سبقت سنة 1956. وكانت الإدارة الاستعمارية قد شكّكت في أمر تلك الجمعية، حينما وجدت أنّ أغلب الذين كانوا يكوّنون الجانب الإسلامي أعضاء في حزب الاستقلال، ومنهم امحمد بوستة، الذي أصبح فيما بعد وزيراً عدة مرات وأميناً عاماً لحزب الاستقلال. وكان الغرض من تلك المبادرة هو مغالبة الصعوبات التي كانت تحول دون التطرُّق بكيفية ملائمة للمطالب الوطنية المغربية، في فترة المقيمين العامين الفرنسيين جوان وغيوم ، وهذا الأخير هو الذي تولّى عزل محمد الخامس ونفيه، وفق التدبير الذي كان قد خطّطه الأول.

وفي تلك الفترة وقع شيء كان له ما بعده. إذ بتاريخ 15 فبراير 1952 نشر المونسينيور لوفيفر ممثل الفاتيكان بالمغرب، رسالة أوضح فيها أنّ للكنيسة دوراً متميزاً في بلد إسلامي، وخاصة أنه بلد مستعمر. وعرفت الوثيقة المشار إليها بالرسالة، وكانت محررة بأسلوب غير سياسي، ولكنها ألحت على أنّ دور الكنيسة لا يقتصر فقط على التبشير بالرحمة، بل بالعدل أيضاً. وعلى الفور - كما يوضح انياس ليب في كتاب له نشره في غمرة الأزمة، سنة 1954 - قام عالم من القرويين، بفاس بالتعبير عن تأييده هو ونظراؤه في الجامعة العريقة، للرسالة، ذاكراً أنه آن الوقت لتصفية نهائية لسوء التفاهم بين النخبتين المسلمة والمسيحية.

وأما على الجانب المسيحي فإنّ الرسالة كما يقول ليب، لم تستقبل بحماس إجماعي، وعابت الإدارة على المونسينيور أنه تدخّل في السياسة.

وبالفعل فقد أتى الرهبان أول الأمر إلى المغرب في ركاب قوات الاحتلال. وكانت مهمة أولئك هي تقديم الإسعاف المعنوي للمقاتلين، فظهروا في أعين المغاربة كرهبان مقاتلين. وأما الجيل التالي من رجال الدين المسيحيين في المغرب، فقد كانوا باستثناء حالات قليلة، يبشرون بالرحمة ولكنهم لم يكونوا بعيدين عن عقلية المعمرين. ولهذا فإنّ الرسالة كانت فعلاً تأسيسية لنظرة جديدة.

وأخذ بعض الرهبان يتعلّمون العربية ويدرسون الإسلام. وبدأ اتحاد المقاولين الشباب يدرس جدياً مشاكل العدالة الاجتماعية والأخوة الإنسانية في محيط عالم الشغل، مما قوّى الأواصر مع المسلمين، الذين التقطوا فكرة مفادها أنه ليس كل الفرنسيين أعداء، وأنّ المعمرين، وهم جماعة منغلقة دون الأفكار المرتبطة بالعدالة، لا يمثلون العبقرية الفرنسية.

وتأكد هذا بوضوح بمناسبة مجزرة الدار البيضاء في دجنبر 1952، إذ إنّ جريدة كاثوليكية قوية صادرة بباريس، هي التي انبرت للتعبير عن الإدانة، باسم الضمير الفرنسي، للاعتداءات الدامية التي وقعت في الدار البيضاء، والتي أدّت إلى منع حزب الاستقلال والحزب الشيوعي. ونشرت الجريدة المذكورة ملفاً بعنوان “المأساة المغربية أمام الضمير الفرنسي”.

وبمناسبة مجزرة الدار البيضاء في 1952، تعبّأت الشبيبة الكاثوليكية وانتقلت إلى فرنسا بقصد “فتح عيون الفرنسيين على ما جرى في المغرب”. وفتح المركز الكاثوليكي للمثقفين الفرنسيين، ذراعيه لأطروحة الوطنيين المغاربة، وهو أمر لم يكن بلا عواقب، لأنّ المعمرين وغلاة الجالية الفرنسية بالمغرب، قد تعبّأوا بدورهم، ونظموا ميليشيات مسلحة، قامت بقتل مسيرين مغاربة وفرنسيين. واستمرت الحالة على ذلك النحو طيلة فترة نفي محمد الخامس. وكان ذلك تحدياً قاسياً لقيم الديمقراطية. وحارب مغاربة وفرنسيون من مختلف الحساسيات السياسية والإيديولوجية بكيفية مشتركة من أجل العدالة والتعايش، ونشأت في غمرة ذلك صداقة وثقة وثيقتان، اعترف بهما محمد الخامس في نفس الإبان، وعمرت وقتاً طويلاً.

وفي هذا الباب كتب مانويل كروز، الذي كان مديراً لجريدة إسبانا التي كانت تصدر بطنجة، ممجداً محمد الخامس قائلاً: إنّ ذلك العاهل كان قائداً خارج المألوف. وكان طبعه السمح قد جعلنا كلنا متسامحين. وكانت قدرته على التفاهم قد حوّلتنا كلنا إلى متفاهمين. وكان إيمانه الديني قد جعلنا كلنا نتطلّع إلى الله. وأضاف مانويل كروث: إنّ محمداً الخامس لم يكن فقط سبّاقاً إلى تحرير شعبه وشعوب العالم الثالث، بل سبّاقاً إلي التبشير بالتعايش، والحوار، والتفاهم بين الشعوب.

وما أحوج المرشحين لرئاسة فرنسا اليوم نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند إلى تمثل هاته الوقائع التاريخية ليتركوا مواضيع اللحم الحلال والإدماج والمسلمين والهجرة جانباً بعيداً عن الحسابات السياسوية الضيقة، ذات الحمولة الانتخابية الكبيرة والخراب الإنساني والحضاري الذي لا يمكن وصفه.

 

سوابق تاريخية في الحوار
د. عبد الحق عزوزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة