ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 21/05/2012/2012 Issue 14480 14480 الأثنين 30 جمادى الآخرة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الأخيــرة

      

الترجمة الحرفية للكلمة اللاتينية المركبة «بيروقراطية» هي سلطة المكتب الحكومي، وبالتأنق اللغوي تعني «الدواوينية»، وبالمعنى الاجتماعي المتعارف عليه «تحطيم أعصاب المراجعين»، وبالمعنى التنموي الالتفاف على الأنظمة والقوانين وإحباط خطط التنمية.

بيروقراطيتنا تتعهد دائما في وسائل الإعلام بمحاربة نفسها، وكل مدير جديد يتعهد بمحاربة البيروقراطية. لا أدري إلى أين وصل أي مدير جديد في حربه ضدها، لكنني متأكد أنه سرعان ما يستسلم أو يغوص في أوحال البيروقراطية وأدرانها أو يصاب بمرض الرعاش لكثرة ما يهز رأسه تعجبا من شراسة البيروقراطية وقدرتها على المقاومة وتجديد أساليبها ومسالكها لأن لها سبع أرواح مثل قط الفراعنة المقدس.

نعلم جميعا من أعلى مراكز الدولة إلى أبسط أُمي أن أي موظف صغير في أية إدارة حكومية سعودية يستطيع ما لا يستطيعه أكبر مدير في تلك الإدارة. المدير الكبير لا يملك سوى أن يشرح على أي معاملة إجرائية ترد إليه: حسب النظام، ويوقع على ذلك. ثم يفقد الصلة تماما بالمعاملة وصاحبها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا على يد أحد الموظفين الصغار. الموظف الصغير يستطيع صرف المراجع إلى أجل غير مسمى، ويستطيع اصطناع ابتسامة ويعد خيرا ثم يقفل على المعاملة في الدرج، ويستطيع إتلافها أو إخفاءها وطلب التقديم من جديد، ويستطيع الزعم أن الإجراءات ناقصة مرارا وتكرارا، ويستطيع تدوير المراجع بين الدوائر الحكومية حتى يحال على التقاعد أو يموت. الموظف الصغير عندنا ليس بهذا الصغر الذي نتخيله، بل هو امبراطور بيروقراطي كبير تتحطم أمام مكتبه كل الهيبات والوجاهات والمطالبات بالحقوق. قد يكون هذا الموظف صغيرا فقط في مسمى وظيفته في سلم الخدمة المدنية، وراتبه الشهري متواضع، لكنه في الحقيقة أمرد من النمرود ابن كنعان، بالإضافة إلى أنه يستطيع تحسين دخله بتقديم التسهيلات الإجرائية لمن يتوسم فيهم القدرة والاستعداد ويقيد الموضوع في بند الواسطة والفزعة.

مهلا، الآن قفزت الواسطة فجأة لتفرض علي نفسها في سياق الكتابة عن البروقراطية، وبحكة رأس اكتشفت أننا حين نتكلم عن مشكلتنا مع الوساطات ونشتمها نتناسى أنها ربائب البيروقراطية وبناتها المدللات. لا وساطات بدون بيروقراطية، والبيروقراطية تصبح أرملة لا ذرية لها بدون وساطات. للوساطات معان لا يحصرها أي قاموس، وأهم معانيها تبادل المنافع. المنافع لا حصر لها، منها ما يتم بالمقايضة ومنها ما يتم بالتسليم الاستلام. واجهتها التبريرية الاجتماعية «بيض الله وجهك ما قصرت»، وخلفيتها «الله يقدرنا على رد معروفك، ولا تتردد في طلب أي خدمة طال عمرك ترانا جاهزين».

كما ترون، الموضوع بدأ جديا ثم تحول إلى مزاح، وهذه هي طبائع الأمور عندنا مع البيروقراطية لأن الجدية والصراخ ونفخ الأوداج والمطالبة بالحقوق لا تنفع معها. قد تنفع الملاينة والتلطف وتملق الموظف البيروقراطي، لكن إدخال اليد في الجيب قد يؤدي إلى نتائج أفضل. كذلك لا ينفع مع البيروقراطي العتيد تهديده بالذهاب إلى من هو أكبر منه لأن المسألة كلها بيروقراطية في بيروقراطية، وليست المسألة طابقا أو طابقين في عمارة كثيرة الأدوار. البيروقراطية لها امتداداتها الطرفية في كل دور، تماما مثل التسليكات الكهربائية وتمديدات المواسير، لا بد أن تصل إلى كل أرجاء المؤسسة البيروقراطية.

الآباء المؤسسون للبيروقراطية المرجئة لأمور المواطنين والمعطلة لخطط التنمية والناهبة لفلوس الميزانيات هم سكان الطبقات العليا في عمارة اسمها «بيروقراطيا». إنهم هم أولا الذين يبادرون بإصدار التعليمات لموظفيهم التحتانيين بالالتفاف على الأنظمة لتسليك المسارات أحيانا أو لسد المنافذ أحيانا أخرى. مع تعايش الموظف الصغير مع هذه الطرق الالتفافية وسبر مسالكها يدرك أن الطرق الفرعية آمنة له أيضا فيبدأ اللعب بذيله بتوجيه من بوصلته البيروقراطية.

لن تنجح أية خطة تنموية بمواصفاتها الأصلية النوعية والزمنية في مناخ تتحكم البيروقراطية بمساراته. البيروقراطية وحش لا يشبع متعدد التفرعات ومتشابك المصالح، لا يردعه وعظ ديني ولا ترهبه توجيهات إدارية ولا يخجله نقد اجتماعي. القضاء على البيروقراطية يتطلب تعريض جهازنا الإداري بكامله للغربلة والتجديد وفتح الأبواب لعقليات إدارية تكنوقراطية شابة ليست بيروقراطية.

 

إلى الأمام
البيروقراطية وحش بسبع أرواح
د. جاسر عبدالله الحربش

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة