ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Tuesday 22/05/2012/2012 Issue 14481 14481 الثلاثاء 01 رجب 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

شَرُفْت بحضور فعاليتين فاعلتين, لخدمة اللغة العربية والذّود عن حياضها, والسعي بحاجاتها:

- فعالية الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

- وفعالية مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدُّولي لخدمة اللغة العربية.

اشتركت في الفعالية الأولى بإدارة جلسة من جلساتها الساخنة وداخلت في الثانية على عجل. ولما لم تكن إسهاماتي من الوزن الثقيل, فقد اطَّرَحْتُها، وصرفت النظر عن استدعائها. ويمّمت شطر الفعاليات التي أدارها المشاركون ممن يحملون الهَمَّ، ويتوفّرون على المعرفة، ويستبطنون الخبرة، ويشتملون على النوايا الحسنة. والفعاليتان تمخّضتا عن أعمال وتوصيات ووعود مبهجةٍ, لو تحقق شطرٌ منها، لانتعشت اللغة التي تتعرّض كلَّ يوم على مدارجها لمزالقَ, تدنيها من الهلكة بغير أناة، كما يقول الناطق بلسانها (حافظ إبراهيم).

ما أريد تحييده قبل البدء، الفهم الخاطئ، لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.

فالفهم الدارج على الألسنة أنّ هذا الوعد المؤكد بالنون واللام المزحلقة, تطمين للأمّة العربية، وإنابة عنها في حفظ اللغة في أرضهم وعلى ألسنتهم. وما هو كذلك، بل أكاد أجزم بأنّ هذا النص الجلي تحذير, وتخويف من التفريط في جنب اللغة. حتى لقد نبّه العليم الخبير رسوله وعشيرته الأقربين بقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} والسؤال عن إضاعة القرآن إضاعة مزدوجة: إضاعة حروفه والتفريط بحدوده. فالحفظ إذاً للغة، وليس لألسنتنا. فنحن نتكلّم العامية, ونتعلّم العربية من خلال نحوها وصرفها وتراكيبها ودلالاتها, ثم لا نقدر على استعمالها في مخاطباتنا, وإن استعملها بعض العلماء في مؤلّفاتهم وقليل من المبدعين في إبداعاتهم. ثم إنّ الاحتجاج باللغة توقَّف منذ القرن الثاني, وسُمِّي من جاء من الشعراء بعد ذلك بـ(المولَّدين). ومتى أوغلنا في العامية - ونحن موغلون ولاشك - حُرمنا من عوائد هذا الحفظ، وليس أدلّ على ذلك من تلقينا تجويد القرآن على مُقْرئين أعاجم, إذ ما كان (النجديون) يجوِّدون تلاوة القرآن على وجهها, ولا يعرفون القراءات. وبعد أن أفاء الله على البلاد بالأمن والرخاء، أحَسَّ الخيّرون بحاجتهم إلى إشاعة تجويد القرآن وقراءاته قراءة مرتّلة, ومن ثم أنْشِئت جمعيات تحفيظ القرآن، للتوفّر على مقرئين مجوِّدين, فكان أن استُقْدم الأعاجم لتدريس أبناء العرب. وهذا تبيان لوعد الله بحفظ القرآن، إذ ليس شرطاً أن يكون الحفظ في صدور من ينتمون إلى العربية وعَبْر ألسنتهم، لقد كنَّا في الكتاتيب نقرأ القرآن هذرمة غير مجوّدة على معلمين, يحفظون القرآن, ويقيمون حدوده, ولكنهم لا يقيمون حروفه. والاسترخاء على هذا الفهم الخاطئ لآية الحفظ مدعاة إلى خُروجِنا من دائرة اللغة العربية، وتحوّلنا بلهجاتنا وعامياتنا إلى أمم غير عربية, كالهنود والباكستانيين. ذلك أنّ من نطق العربية فهو عربي. فهل أحد منا يفهم الشعر الجاهلي، ويتذوّقه, ويحذو حذوه في التعبير عن حاجاته ومعاناته؟ لقد ابتدر الراية الشعرُ العامي, ووجد من يعزّزه ويشيعه, وذلك مكمن الخطورة. إنّ علينا أن نصحِّح فهمنا, ونحفظ لغتنا، ونزداد تمسُّكاً بها، ليشملنا الوعد بالحفظ.

ثم أما بعد: فإنّ هاتين المناسبتين - وإنْ عبّرتا المشهد بدون ضجيج - سيكون لهما بعض الأثر الحميد, فحمل الْهَمِّ والشعورِ بالتقصيرِ بدايةُ التفكير السليم, لتلافي ما يمكن تلافيه من رسيس الفصيح.

وللغة العربية وإنْ حَمَل همّها مؤسسات وجامعات ومجامع فإنها محاصرة في عُقْرِ دارها. ويكفي استعراض بكائيات الشعراء الذين أدركوا ضعفها، وهوانها, وقلّة حيلتها, وطغيان العاميّات واللغات الأعجمية. والمواقف المتخاذلة ضيّقت عليها الخناق, وحرمتها من الحضور الكريم، ولما تزل الجهات المعنية تراوح في مكانها، وممارساتها لا تحمل على التفاؤل، لأنها لم تحقق أيّ تقدم, ولم تدفع أية غائلة. ذلك أنّ المدارس والجامعات تدرِّس قواعد اللغة ولا تدرسها، وكلما زادت الساعات, وتحرّفت للمناهج والمواد, زادت العامية، وطغت اللغات الأجنبية. وانتشار اللغات إنما يكون بالممارسات, وبالحضور الفعلي في المؤسسات، وهو ما لم يتحقق للغة العربية.

هذه التردِّيات المتلاحقة، حفزت القطاعات التربوية والأدبية والإعلامية على التماس أطواق النجاة, إذ ما عاد الوضع مُحْتمِلاً لمزيد من التردِّيات. والمؤسف أنّ الخطط والمناهج, لم تضف شيئاً, ولم توقف التدهور. فاللغة اليوم كقبور الأولياء، يمر بها الخرافيون ساعة من نهار, ليتمتموا بتعاويذ ببغائية، ثم يولّون الأدبار, عائدين إلى عوائدهم القديمة, يتكلمون العامية, ويديرون أعمالهم باللغات الأجنبية, وتلك حال مؤسسات اللغة. فالمشهد العملي قسمة بين العامية واللغات الأجنبية. واللغة الفصحى حبيسة الكتب التراثية, والذين يلمون بها، لا يلمون سليقة, وإنما يلوكون ألسنتهم, ويتكلّفون تصيد شواردها.

ما قلته عين الحقيقة، بل هو بعض ما علمت, وليس لقولي هذا هدف إحباطي، ولا رغبة تيئيسية، ولكن البدء بأيّ مشروع دون تصوُّر دقيق لما هو عليه, يبعث على الاسترخاء, وترك الأشياء تجري, كما لو كانت آمنة مطمئنة.

ومتى أخذ المؤتمرون حذرهم, وأعدّوا عدّتهم، وتصوّروا واقعهم، حصّنوا فعلهم من المتربصين الذين يبحثون عن الثغور المهملة.

واللغة العربية لم تَعُد عرضاً زائلاً، إنها قضية الأمّة منذ (أبي الأسود الدؤلي) و(سيبويه) وأساطين اللغة الذين ذبّوا عن حياضها, وجنّدوا إمكانياتهم لصيانتها وحمايتها، فما لانت قناتها, وما وهنت عزائمها إلى يومنا هذا, وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. واليوم لا نملك إلاّ التباكي والتحسُّر, والخروج من مؤتمر والشروع في آخر.

عدت من الجامعة الإسلامية بتسعة مجلدات أَعِدُ نفسي وأمنيها بقراءة متأنّية, وتصوُّر سليم, لِما يساور المشاركين من خوف, وما يحدوهم من أمل.

وعدت من مركز الملك عبدالله بشحنة عاطفية, وتطلُّع واله, وأمل باسم. انفضّ سامر الجامعة، وراح المعنيّون يبحثون عن قضية أخرى، لا تتعلق باللغة.

وانفض سامر المركز, وعاد المعنيّون يفكرون بذات اللغة, ويعدّون العدّة لجولة أخرى في صميمها. ولم يَعُد مركز الملك عبدالله وحده الذي يحمل همّ اللغة، ولكنه حلقة في سلسلة طويلة، مجاورة لسلاسل أخرى. ولعلّ ما ينفرد به الخروج على النمطية, وتوفر الإمكانيات والخبرات, والتفكير بالبدء من حيث انتهى الآخرون، ولما تزل تساورني الرغبة الملحّة في أن يرى (المجمع اللغوي) في المملكة النور، كي يمارس مهماته جنباً إلى جنب مع المركز, ومع سائر المجامع العربية, وكافة المؤسسات والجامعات التي تعمل في خدمة اللغة، وما نعقده من آمال على المركز, لا يمنع من أن تُعْقد آمالٌ مماثلة على المجمع المرتقب, وسيجد المجمع كما وجد المركز مجالات عدّة للممارسة والأداء, فاللغة بأمسِّ الحاجة إلى تحرف أبنائها القادرين على إقالة عثرتها. وإذا كنا في المملكة أحسن حالاً من غيرنا، فإنّ هذا لا يمنع من استغلال تلك الإمكانيات, وبذل مزيد من الجهود, لإشعار الأمة العربية بخطورة الموقف, إذ لو عدنا إلى الإحصائيات ولغة الأرقام لهالنا الوضع، وأيقنا بأن اللغة كما وصفها الشاعر (حافظ إبراهيم) تعاني من عقوق أبنائها, وإيغال أعدائها في النَّيل منها.

ومركز الملك عبدالله بكل ما يتوفّر عليه من إمكانيات, وما يضمه من كفاءات, وما يضمره من مقاصد حسنه, جدير بأن يتلقّى الراية, وأن يتخذ طريقاً قاصداً لمعالجة أوضاع اللغة, وتمكينها من الحضور الفعلي والفاعل. ولعلّ أولى الخطوات مواجهة الشارع الذي تُجَسِّد شواهده وممارساته أبشع صور العقوق. فالمحلات والمطاعم والمؤسسات كافة لغاتها قسمة بين العاميّات واللغات الأعجمية، فالعامة لا تملك إلا عاميتها، والخاصة تباهي بإدارة شؤونها باللغة الأجنبية. والعربية قابعة في بطون الكتب وأروقة المؤسسات المعنية, وكأنه محرّم عليها أن تتخطى إلى الألسنة والشواخص والمحلات. و(الحلقة النقاشية) التي نفّذها المركز, ارتفعت فيها نبرة الحجاج والتساؤل والتطلُّع, وأثبتت استياء العلماء والمهتمين, وكشفت عن مضمرات تدل على أنّ بالإمكان التحرف لعمل يقيل العثرة, ويعيد بعض الحق.

ومجلس الأمناء ومن حولهم من أمين ومستشارين ومتعاونين ومؤتمرين، لديهم تصوُّرات سليمة، ومشاريع قيّمة, وطموحات تبعث على الأمل. لقد خرجوا من تلك الحلقة بحزمة من الآراء والتصوُّرات, ووعودهم تبشِّر بخير, وثقتهم تبعث على الاطمئنان, وإمكانياتهم المادية والبشرية من المبشرات. والأمل معقود على ما ستتمخّض عنه تلك الحلقة الصاخبة، وليس لديّ مزيد من الآراء, فقد مارس المشاركون حقهم في الجلسات, وسجلت آراؤهم وتطلُّعاتهم وتساؤلاتهم, وهم على وعد بالإفراغ والتصنيف للمتداول من الآراء. كل ذلك يحملنا على الترقُّب والانتظار. ومبادرة الملك عبدالله، لم تنطلق من فراغ، ولن تنتهي إلى فراغ. لقد ضم المركز نخبة من المتخصصين والعاملين المخلصين, وهيئت له أجواء ملائمة للمارسة الحضارية، ولم يبق إلاّ أن ترتب الأمور على ضوء نتائج تلك (الحلقة النقاشية) التي استُقْطِب لها عشرات المحاضرين والمعقبين، ومئات المداخلين، وضبطت بالصوت والصورة. والمشاركون نَسَلوا من كل حدب وصوب, فلم تَعُد المشاكل مناطقية، بل شملت كافة أرجاء الوطن العربي، وذلك سر نجاح المركز، ومشروعية التفاؤل في الزمن العصيب.

ولم يبق إلاّ الشكر والدعاء.

الشكر للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، التي وثَّقت أعمالها في تسعة مجلدات, ستكون في أيدي أصحاب القرار. والدعاء لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدُّولي لخدمة اللغة العربية, ليكون في مستوى تطلُّع المنشئ, بحيث يحقق نتائج إيجابية، تمكِّن اللغة العربية من استعادة عافيتها، وانتقالها من محابسها إلى ألسنة الأمة العربية، لغة كتابة وتخاطب. وما لم تَعُد اللغة إلى حقول الممارسة فإنّ مختلف الجهود ستكون هباءً, وتكون سدى.

 

هل تَأْرزُ اللُّغةُ إِلى جُحْرِها ؟
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة