ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 04/06/2012/2012 Issue 14494 14494 الأثنين 14 رجب 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

“الغرب يأمل بأن الغنى والعولمة والاندماج السياسي سوف يحول الصين إلى عملاق لطيف.. لكن جاك يقول إن هذا وهم. الوقت لن يجعل الصين تبدو غربية بل سيجعل الغرب والعالم يبدوان صينيَّيْن!” من تعليق الإكونومست على كتاب مارتن جاك الذي أعيدت طباعته هذه السنة..

عنوان الكتاب “عندما تحكم الصين العالم”، وهو أكثر الكتب انتشاراً التي تناولت الشأن الصيني خلال السنوات الأخيرة، وقد أضاف له المؤلف المستجدات خاصة الأزمة المالية الأخيرة. أما العنوان الفرعي فهو أكثر تقريرية وفجيعة: “نهاية العالم الغربي ومولد نظام عالمي جديد..”! ويصرّ هذا البروفيسور البريطاني على أن التأثير الصيني على العالم لن ينحصر بالاقتصاد بل سيكون سياسياً وثقافياً وعسكرياً، وقد يكون أكثر مما أثرت به أمريكا طوال قرن مضى.

وكان المؤرخ الأمريكي بول كيندي أول من نظّر لسقوط الإمبراطورية الأمريكية، بمعنى تراجعها كقوة عظمى، في كتابه الشهير “صعود وسقوط القوى العظمى” قبل ربع قرن. يرى كيندي أن الإمكانية لبقاء الدولة عظمى يعتمد على قدرتها الإنتاجية. فموقع أمريكا الحالي كأعظم قوة في العالم هو نتاج تراكمي لنموها الاقتصادي السريع بين 1870 و1950، وحقيقة كونها منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين تضم الاقتصاد الأضخم والأكثر مرونة في العالم هو ما جعل لها هذه المكانة الدولية العظمى سياسياً وثقافياً وعسكرياً.

ما هو سر نهوض وسقوط الأمم قديمها وحديثها. ابن خلدون شخَّص سر النهوض في مفهوم “العصبية”، وسر السقوط في حالة تبذير الحكومة مع تراجع الاقتصاد. وبالمثل من ناحية أسباب السقوط، يرى كينيدي أنه: إذا زادت الالتزامات الاستراتيجية للدولة العظمى عن إمكانياتها الاقتصادية فإنها تسقط..

إذا عدنا إلى الوراء قرناً ونصف، تراءت لنا الثورة الصناعية في إنجلترا التي كانت ماكينة الهيمنة البريطانية على العالم. الإنتاج الصناعي مد التوسع الاستعماري، وجعل الاقتصاد البريطاني الأقوى عالمياً، مما قادها للهيمنة السياسية والعسكرية. وبلغت بريطانيا العظمى ذروة حصتها في الإنتاج العالمي مع نهاية القرن التاسع عشر، وأصبحت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس! لكن بعد ذلك أخذ نموها الاقتصادي في التراجع التدريجي البطيء.. كان التراجع هادئاً وصامتاً لكنه كان ثابتاً. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى استمرت بريطانيا في سلوك الدولة العظمى عسكرياً وسياسياً بينما قوتها الاقتصادية لم تكن عظمى، بل كانت أوهامها هي العظمى، فمساهمتها في الإنتاجي الصناعي عالمياً انخفضت لصالح أمريكا المتقدمة اقتصادياً بقوة.. زادت الأعباء العسكرية والسياسية على بريطانيا فوق طاقتها الاقتصادية.. فما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى أدركت بريطانيا - متأخرة - أنها قوة منهارة ومفلسة..

كان الإنتاج الأمريكي يشكل 8.8 % من مجمل الإنتاج العالمي عام 1870 وصعد إلى قرابة 19% عام 1913 ثم إلى 27% منصف القرن العشرين (مارتن جاك). ومع نهاية الحرب العالمية الثانية صارت أمريكا القوة العالمية المهيمنة، حتى في ظل وجود الاتحاد السوفييتي وفي ذروة الحرب الباردة كانت أمريكا متقدمة عسكرياً وتكنولوجياً وحجم اقتصادها كان أكثر من ضعف حجمه السوفييتي. وعندما انهار الاتحاد السوفييتي عام 1991 كانت حالته العسكرية والسياسية قوية.. ومرة أخرى، مثلما حصل لبريطانيا، انهار السوفييت لأن اقتصاده لم يستطع مجاراة الأعباء الثقيلة لتمدده العسكري والسياسي.. وبعد انهيار السوفييت ازدادت القوة الأمريكية حتى بلغت هيمنتها من السعة ما لم تبلغه الإمبراطورية البريطانية.. أو ما لم تبلغه أي إمبراطورية في التاريخ من القدرة بأن تكون قوتها العسكرية أعظم من بقية الأمم مجتمعة، كما وصف مارتين جاك!

هذه القوة التي تخدع وتغري بالهيمنة وتفضي إلى العجرفة.. هذه القوة التي ترتكب نفس الخطأ البشري لكل الإمبراطوريات العظمي، بدلاً من أن تستثمرها أمريكا كأولوية في الاقتصاد الذي صار العامل الأهم في القوة للزمن الحديث، وبدلاً من التعاون الدولي المشترك استثمرتها في الهيمنة العسكرية. فمنذ عام 2001 تحت إدارة المحافظين الجدد الذين روجوا لضرورة أن تبسط أمريكا سيطرتها المنفردة على العالم، فتمددت قوتها العسكرية وأكثرت التدخلات بما كبّد الاقتصاد الأمريكي خسائر جمة.. فهل تلك أول مؤشرات الانحدار مثلما حصل لبريطانيا التي ظهرت في بداية تراجع الإمبراطورية: زيادة الأعباء العسكرية على القدرة الاقتصادية.. لتؤكد الخطأ البشري المتكرر؟

ثم أتت الأزمة المالية في سبتمبر 2008 لتفاقم الجروح.. وللمفارقة كان الاقتصاد الصيني هو المنقذ للدولار! وبينما لا تزال دول الغرب تعاني من تلك الأزمة فإن الاقتصاد الصيني كان ينمو بقوة، فيما تعافت الدول النامية كما في شرق آسيا والهند وأمريكا اللاتينية.. وصار الموقع الاقتصادي للصين من أمريكا يشابه موقع أمريكا من بريطانيا قبل قرن. الآن، الصين هي الأولى عالمياً من حيث: السكان، التصدير، الإنتاج الزراعي، إنتاج السيارات، سوق الاكتتاب..إلخ

خبير الاقتصاد الدولي آرفيند سبرامانيان ومؤلف كتاب “الانحدار: العيش في ظل هيمنة الاقتصاد الصيني” الذي صدر حديثاً، يتوقع بأن الصين ستهيمن على العالم قريباً.. وأن العملة الصينية ستحل محل الدولار كعملة للاحتياط العالمي.. وأن التفوق الاقتصادي لأمريكا لم يعد بيديها كما نحب أن نعتقد ولكن بيد الصين.

يرى البعض أن بداية تراجع قوة الاقتصاد الأمريكي لم تكن تلك الأزمة المالية الأخيرة، بل ظهرت علاماتها منذ السبعينات مثلما أشار المؤرخ كيندي، حين انخفضت مساهمة الإنتاج الأمريكي في الإنتاج العالمي، انخفاضاً بسيطاً وبطيئاً لكنه ثابت: من 27 % في خمسينات القرن المنصرم إلى نحو 22 % عام 1973 ثم إلى نحو 20 % مطلع الألفية الحالية (CECD، 2003). ورغم أن هذه النسبة الأخيرة تجعل الاقتصاد الأمريكي هو الأقوى عالمياً، لكن مواصلة الانخفاض لا تدع مجالاً للشك في تراجع القوة الاقتصادية.

تقول التوقعات إن الاقتصاد الصيني سيستمر بالنمو حتى يقارب مثيله الأمريكي بحلول عام 2025 في إجمالي الإنتاج المحلي.. وسيتواصل هذا النمو لتتقدم الصين إلى أن تبلغ قرابة ضعف الإنتاج الأمريكي عام 2050 (Goldman Sachs). هذه التوقعات ليست حتمية، وهذا التحول التاريخي لا يزال في مرحلته الجنينية. فهل فعلاً ستصبح الصين القوة المهيمنة وتقود العالم، أم أنها مبالغات؟ وماذا ستفعل بنا الصين؟ هل هذا يقلقنا؟ هل هناك احتمالات أخرى؟ هذا ما سيناقشه المقال القادم.

alhebib@yahoo.com
 

كيف تسقط الدولة العظمى؟
د.عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة