ارسل ملاحظاتك حول موقعنا   Tuesday 12/06/2012/2012 Issue 14502  14502 الثلاثاء 22 رجب 1433 العدد  

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

           

إذا كنت ممن يحبون علم النفس ورغبت التخصص في هذا المجال ودراسته فستجد شيئاً غريباً يواجهك في الكثير من مناهجها: تفتح الكتاب وإذا به يفاجئك -قبل أن يشرح أيّ شيء- بأن يطلب منك أن تجد العلاقة بين تناول الآيسكريم والغرق؛ أي سؤال هذا؟.. وهل يوجد رابط بين شيئين عشوائيين مثل هذين؟.. الغريب أن هذه حقيقة: زيادة تناول الناس للآيسكريم دائماً ترتبط بغرق أناس آخرين!.. ودورك هنا أن تعرف السبب؛ هل هناك طاقة ظلماء خفية تحوم حول الآيسكريم مثلاً وبمجرد أكل الآيسكريم تُقلع الطاقة إلى مكان آخر فتُغرق أناساً يسبحون؟.. لابد أن هناك تفسيراً! لكن الغريب أن الكثير من الناس لن يحتاج إلى تفسيرات للكثير من هذه المواقف، فالقفز إلى استنتاج هو من أكثر المغالطات انتشاراً ولا يسلم أحد من هذا، وهو الجزء الأخير من السلسلة التي بدأناها عن كتاب «الغوريلا الخفي» للخبير النفسي كريس شابري، وهذا الكتاب يناقش عدة أوهام يقع الناس تحت تأثيرها بلا شعور، ورأينا في المواضيع السابقة عدداً من هذه الأوهام، بدءاً بوهم الانتباه، فَوَهم التذكر، ثم وهم الثقة، بعدها كان وهم الإمكان هو موضوع المقالة السابقة.. واليوم نختم السلسلة بالوهم الأخير وهو «وهم السببية»، وهي مغالطة تجعل الإنسان يفترض شيئاً خاطئاً اعتماداً على شيء آخر، ورأينا في الأعلى نموذجاً من هذا، فهل حزرت الرابط بين الغرق والآيسكريم؟ الواقع أن أكل هذه المثلجات لا يسبب الغرق بنفسه، وإنما هذا نوع من التوافق، وهذه هي النقطة الأساسية التي يجدر معرفتها: التوافقية لا تعني السببية. بمعنى آخر، عندما نرى توافقاً بين شيئين فلا يعني هذا بالضرورة أن الأول هو الذي سبّبَ الثاني، ففي مثالنا هذا نجد أن السبب الحقيقي لهذا التوافق هو الحر، ففي الصيف يزداد عدد الناس الذين يأكلون الآيسكريم وفي نفس الوقت يزداد عدد الذين يخرجون ويسبحون، ومن هنا تزداد احتمالية الغرق. هنا انتقلنا من مجرد توافقية إلى سببية، وعرفنا المؤثّر والأثر، فالمؤثر هو الصيف والأثر هو زيادة أكل المثلجات وكذلك زيادة حالات الغرق. هذه تبدو بديهية الآن، لكن لو تأملنا الكثير من العادات العقلية التي تعودنا عليها لوجدنا العجب، فمن ذلك أنه منذ الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي زادت نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو، وارتبط هذا مع زيادة البدانة بين الناس. هل يعني هذا أن ذاك الغاز هو السبب؟.. لا، فهناك عامل ثالث أُغفِل تمااً: زاد عدد الناس الذين يشترون السيارات وبالتالي قلَّ المشي، ولما قلت الحركة زاد الناس بدانة. ومرة أخرى أكرر أن هذه تبدو واضحة الآن وبديهية، لكن سيمر عليكم الكثير جداً من هذه الأمور والتي ستجعل العقل يقفز إلى استنتاجات خاطئة.

هذه يمتلئ بها الإعلام، وسترونها بشكل يومي. لنأخذ مثالاً نشرته مجلة «تايم» عام 2010م نقلاً عن دراسة علمية وجدت أن الدرجات الدراسية العالية تتوافق مع صحة أفضل إذا كبر الشخص، فجعلوا العنوان: «التفوّق الدراسي قد يعني صحة أفضل لاحقاً في الحياة».. يا لها من قفزة سريعة! لكن لا علاقة واضحة بين الاثنين، وإنما الأرجح أن هناك عوامل أخرى، مثلاً: المتفوقون قد يكونون أكثر ذكاءً واطلاعاً، ومع كثرة اطلاعهم فإنهم يمرون على الكثير من المعلومات التي تفيدهم لاحقاً، فيقرأ عن ضرر الشيء الفلاني فيجتنبه، ونفع الشيء العلاني فيتبعه، وهكذا. قد تكون العوائل نفسها ذات قوانين صارمة مثلاً، فلا تسمح للأبناء بتناول الطعام السريع ولا التدخين وتشجعهم على الرياضة والحركة، فيتعود الأبناء على هذه العادات والتي تفيدهم حتى بعد عشرات السنين، وهكذا. التفسيرات لا حصر لها.

هناك طريقة واحدة معروفة لمعرفة التوافقية من السببية: التجربة.. إذا استطعنا أن نجرب بشكلٍ عشوائي ونحاكي الظروف والعوامل التي رأيناها وظهرت لنا نفس النتيجة فهذا يدل على كون التوافقية عرضاً من أعراض السببية. لو رأينا توافقاً بين أكل نوع معين من الأطعمة وبين الصحة فإن مجرد التوافق لا يعني شيئاً بالضرورة، لهذا تُجرى التجارب على عينات عشوائية من الناس والتي تأكل هذا الطعام، فإذا استُبعِدَت العوامل الأخرى حينها تزدادت احتمالية السببية ونبدأ نعتقد أن هذا الطعام فعلاً هو السبب في تحسن الصحة.

تمت السلسلة بحمد الله، فهذه الأوهام التي ناقشناها هنا وفي المواضيع السابقة هي خلاصة الكتاب المذكور أعلاه، فلنحرص على تنقية عقولنا من هذه المغالطات والتي تأتي إما إهمالاً وجهلاً أو للتأثير المتعمد على آرائنا وعقولنا.

 

الحديقة
«الغوريلا الخفي».. الجزء السادس والأخير
إبراهيم عبد الله العمار

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعة حفظ ارسل هذا الخبر لصديقك  

 
 
 
للاتصال بنا خدمات الجزيرة جريدتي الأرشيف جوال الجزيرة السوق المفتوح الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة