ارسل ملاحظاتك حول موقعنا   Friday 15/06/2012/2012 Issue 14505  14505 الجمعة 25 رجب 1433 العدد  

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

وقد عقد فصلاً أعطاه رقماً هو 88 كعادته بدل تسمية موضوع الفصل لكنّه خصّصه للفم فقال: وأمّا الفم فمحل العجائب، وباب الطعام والشراب، والنَّفَس والكلام، ومسكن اللِّسان النَّاطق الذي هو آلة العلم وترجمان القلب، ورسوله المؤدي عنه.

ولما كان القلب ملك البدن، ومعدناً للحرارة الغريزية، فإذا دخل الهواء البارد، وصل إليه، فاعتدلت حرارته وبقي هنالك ساعة فسخن واحترق، فاحتاج القلب إلى دفعه وإخراجه، فجعل أحدكم الحاكمين إخراجه سبباً لحدوث الصوت في الحنجرة، والحنك واللسان والشفتين والأسنان مقاطع ونماذج مختلفة مختلفة، وبسبب اختلافها تميزت الحروف بعضها عن بعض، ثم الْهَمَ العبد تركيب تلك الحروف ليؤدِّي بها عن القلب ما يأمر به.

فتأمل الحكمة البالغة حيث لم يضع سبحانه ذلك النَّفَس المستغنى عنه، المحتاج إلى دفعه وإخراجه، بل جعل فيه إذا استغنى عنه، منفعة ومصلحة، هي أكمل المنافع والمصالح، فإن المقصود الأصلي من النَّفَس هو اتصال الريح البارد إلى القلب، فأمّا إخراج النفس، فهو جار مجرى دفع الفضلة الفاسدة، فصرف ذلك سبحانه إلى رعاية مصلحة ومنفعة أخرى، وجعله سبباً للأصوات والحروف والكلام، ثم إنه سبحانه جعل الحناجر مختلفة الأشكال: في الضيق والسعة، والخشونة والملامسة، لتختلف الأصوات باختلافها، فلا يتشابه صوتان، كما لا تتشابه صورتان، وهذا من أظهر الأدلة - فإن هذا الاختلاف - الذي بين الصور والأصوات، على كثرتها وتعددها، فقلما يشتبه صوتان أو صورتان، ليس في الطبيعة ما يقتضيه، إنما هو صنع الله الذي أتقن كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين، فميز سبحانه بين الأشخاص بما يدركه السمع والبصر.

ثم عقد فصلاً برقم 89، ولم يسمه عنواناً على عادته ومنهج جيله، وهو عن اللسان، فقال: وأُودع اللسان من المنافع منفعة الكلام - وهو أعظمها - ومنفعة الذوق والإدراك، وجعله دليلاً على اعتدال مزاج القلب، كما جعله دليلاً على استقامته واعوجاجه، فترى الطبيب يستدل بما يبدو للبصر على اللسان من الخشونة والملامسة والبياض والحمرة، والتشقق وغيره، على حال القلب والمزاج، وهو دليل قوي على أحوال المعدة، والأمعاء، كما يستدل السامع بما يبدو عليه من الكلام على ما في القلب، فيبدو عليه صحة القلب وفساده: معنى وصورة.

وقد جعل فصلاً رقمه 90، وخصصه للسان وتكوينه، فقال: وجعل سبحانه اللسان عضواً لحمياً، لا عظم فيه ولا عصب، لتسهل حركته، ولهذا لا تجد في الأعضاء، من لا يكترث بكثرة الحركة سواه، فإن أي عضو من الأعضاء إذا حركته كما تحرك اللسان، لم يطق ذلك ولم يلبث أن يكل ويخلد إلى السكون، إلا اللسان وأيضاً فإنه من أعدل الأعضاء وألطفها، وهو في الأعضاء بمنزلة رسول الملك ونائبه، فمزاجه من أعدل أمزجة البدن، ويحتاج إلى قبض وبسط، وحركة في أقاصي الفم وجوانبه، فلو كان فيه عظام لم يتهيأ منه ذلك، ولم يتهيأ منه الكلام التام، ولا الذوق التام، فكوَّنه الله سبحانه كما اقتضاه السبب الفاعلي، والغائي والله أعلم.

ثم عقد فصلاً رقمه 91 عن ما حفظ الله به اللسان، ولم ينبه لمحتوى الفصل كعادته فقال: وجعل سبحانه على اللسان غُلْتين - أي قُفلين لحفظه، فقال: وجعل سبحانه على اللسان غلقين: أحدهما الأسنان والثاني الفم.. وجعل حركته سبحانه اختيارية، وجعل على العين غطاءً واحداً، ولم يجعل على الأذن غطاءً، وذلك لخطر اللسان وشرفه، وخطر حركاته، وكونه في الفم، بمنزلة القلب في الصدر، وذلك من اللطائف، فإن آفة الكلام أكثر من آفة النظر، وآفة النظر أكثر من آفة السماع.

فجعل للأكثر آفات طبقتين، وللمتوسط طبقاً، وجعل الأقل آفة بلا طبق.

ثم جعل عنواناً جديداً، كعادته باسم فصل وبرقم 92 وخصصة للفم، وقال: وجعل سبحانه الفم أكثر الأعضاء رطوبة، والريق إليه دائماً لا يفارقه، وجعله حلواً لا مالحاً كماء العين، ولا مرّاً كالذي في الأذن، ولا عفناً كالذي في الأنف، بل هو أعذب البدن وأحلاها، حكمة بالغة.

فإن الطعام والشراب يخالطه، بل هو الذي يحيل ويمتزج به امتزاج العجين بالماء، فلولا أنه حلو لما التذّ الإنسان، بل ولا الحيوان، بطعام ولا شراب، ولا ساغه إلا على كره وتنغيص، ولَمَّا كان كثير من الطعام، لا يمكن تحوله إلا بعد طبخه، جعل الرب تعالى له آلة للتقطيع والتفصيل، وآلة للطحن فعجل آلة القطع - وهي الثنايا وما يليها - حادة الرؤوس ليسهل بها القطع، وجعل النواجذ وما يليها من الأضراس مسطحة الرؤوس عريضة، ليتأتى بها الطحن.

ونظمها أحسن نظام كاللؤلؤ المنظّم في سلك، وجعلها من الجانب الأعلى والأسفل، ليتأتى بها القطع والطحن، وجعلها من الجانب الأيمن والأيسر، إذ ربما كلت إحدى الآلتين، أو تعطلت أو عرض لها عارض، فينتقل إلى الآلة الأخرى، وأيضاً لو كان العمل على جانب واحد دائماً أوشك أن يتعطل ويضعف.

وتأمل كيف أنبتها سبحانه من نفس اللّحم، وتخرّ من خلاله نابتة، كما ينبت الزّرع في الأرض، ولم يكسها سبحانه كسائر العظام سِوَاها، إذ لو كساها اللحم لتعطلت المنفعة المقصودة، ولما كانت العظام محتاجة إلى لحم يكسوها ويحفظها، ويتلقي عنها الحرارة والبرد، ويحفظ عليها رطوبتها، فلم تكتمل مصلحة الحيوان إلا بهذه الكسوة، ولما كانت عظام الإنسان محتاجة لذلك من وجه، مستغنية عنه من وجه، جعلت كسوتها منفصلة عنها، وجُعِلَت هي المكتسية العارية، لتمام المنفعة بذلك، ولما كانت آلة القطع والكسر والطحن لم تنشأ مع الطفل من أول نشأته، - كسائر عظامه لعدم الحاجة إليها- عُطِّلَ عنها وقت استغنائه عنها بالرّضاع، الذي ألهمه الله طريقة التغذي من الثدي، وأعطيها وقت حاجته إليها.

وفي ذلك حكمة أخرى، وهي أن الطفل لو نشأت معه من حين يولد، لأضرت بحلمة الثدي، إذ لا عقل له يحرزه عن عضها، فكانت الأم تمتنع عن إرضاعه.

ومن عجب أمر الأسنان، الاتفاق والموالاة، التي بينها وبين المعدة، فإنه يسلّم إليها الشيء اليابس، والصلب، فتطحنه ثم تسلّمه إلى اللسان فيعجنه، ثم اللسان يسلمه إلى الحلق فيوصله إلى المعدة، فتنضجه وتطبخه، ثم يرسل إليها منه معلوفها المقدر لها، فإذا عجزت عن قطع شيء وطحنه، عجزت المعدة عن إنضاجه وطبخه، وإذا كلت الأسنان كلت المعدة، وإذا ضعفت ضعفت.

وهي تصحب الإنسان وتخدمه، ما لم يرها، فإذا وقعت عينه عليها - ولا يقصد النظر في المرآة، وإنما يعني رؤيتها ساقطة من مكانها بالفم بالخلع - فإنها تفارقه إلى الأبد.

والأسنان سلاح ومنشار، وسكين وروح وزينة، وفيها منافع ومصالح غير هذه. فرحم الله علماءنا، لقد أعطوا من جهدهم وأعمالهم، وخاصة في المجال الطبي والمسميات فيه، مما يبرهن على أن جذور الطب عند العرب متأصلة، حيث كان الحارث بن كلدة مشهوراً من أيام الجاهلية، فربطوا الجذور القديمة بالطب الشرعي والطب النبوي، وهذا الكتاب نموذج ولكثرة فوائده، فإن ما أثبتنا في هاتين الحلقتين، ما هي إلا برهان على مكانة الطب الشرعي والطب النبوي، وقد تحدث المؤلف في هذا الكتاب وغيره.

ولذا نراه يضع أسئلة قد تكون افتراضية، ويجيب عليها، وسوف نورد منها ما يتناسب مع الحيز، وفي إجاباته هذه ما يعجز عنه كثير من أطباء هذا الزمان، ومنها قوله:

الجنين قبل نفخ الروح فيه، هل كان فيه إحساس أم لا؟ قيل كان فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات، ولم تكن حركة نموّه واغتذائه بالإرادة، فلما نُفختْ فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه.

فإن قيل: قد ثبت أن الولد يتخلق من ماء الأبوين، فهل يتمازجان ويختلطان حتى يصيرا ماءً واحداً، أو يكون أحدهما هو المادّة، والآخر بمنزلة الأنفحة التي تعقده؟ قيل: هو موضع اختلاف بين أرباب الطبيعة، فقالت طائفة منهم، ماء الأب لا يكون جزءاً من الجنين، وإنما هو مادّة، مادة الرّوح السّاري في الأعضاء، وأجزاء البدن كلها من ماء الأم. ومنهم من قال: بل هو ينعقد من ماء الأنثى ثم يتحلل ويفسد، قالوا: ولهذا كان الولد جزءاً من أمه، ولهذا جاءت الشريعة بتبعيّة الولد في الحريّة والرّق.. وأيضاً:

قالوا: ولهذا لو نزى فحل رجل على جارية آخر فأولدها، فالولد لمالك الأم دون مالك الفحل لأنّه تكوّن من أجزائها وأحشائها، ولحمها ودمها، وماء الأب بمنزلة الماء الذي يسقي الأرض، قالوا: والحسّ يشهد أنّ الأجزاء الذي في المولود من أمه أضعاف أضعاف الأجزاء التي فيه من أبيه، فثبت أنّ تكوينه من ماء الأم، ودم الطّمث، وماء الأب عاقد له كالأنفحة، ورسول الله حكم في مثل هذه: بأن الولد للفراش، وللعاهر الحجر.

 

حكمة الله في مخلوقاته 2-2
د.محمد بن سعد الشويعر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعة حفظ ارسل هذا الخبر لصديقك  

 
 
 
للاتصال بنا خدمات الجزيرة جريدتي الأرشيف جوال الجزيرة السوق المفتوح الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة