ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Thursday 28/06/2012/2012 Issue 14518 14518 الخميس 08 شعبان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

كل أمم الدنيا ودول العالِمَ لا تنفك تعتز بحضارتها، وتستذكر تاريخها، وتستلهم من ماضيها ما يُنير دربها في حاضر واقعها، أو يعينها على استشراف طرائق مستقبلها، بدلالة النصب التذكارية لشخصياتها التاريخية في ميادينها العامَّة، أو إبرازها في مكاتب صنع قرارها القومي أو مقار

أحزابها السياسية، فضلاً عن المؤلِّفات الفكرية المتدفقة من بطون مطابعها، مبرزة ًروائع الحكمة والأعمال لتلك الشخصيات والرموز، ناهيك عن الأفلام السينمائية التاريخية التي تستعرض التجربة الحضارية لهذا البلد أو تلك الأمة، بإتقان عجيب أذهل العالم على مستوى النص والتمثيل والإخراج كالأفلام الأمريكية على سبيل المثال.

هذه الحقيقة المشاهدة واقعيًا لم تلج في عقول شريحة من كتابنا ومثقفينا، الذين يحاولون فصلنا فكريًا عن سلفنا، لأنَّهم ببساطة لا يؤمنون بالماضي الإسلامي (التاريخ بأحداثه والفقه بميراثه والحضارة بإسهاماتها)، فهو بنظرهم مرحلة تاريخية انتهت بظروفها وشخصياتها وأحداثها، بحجة أن استرجاع الماضي عودة للوراء، وتكلس حول تلك الظروف والشخصيات لدرجة التخشب عند مرحلة زمنية معينة! فحسب تقديرهم أن العودة للماضي هي في حقيقتها استنساخ لكل تفاصيل حياة أسلافنا وارتهان عقولنا لعقولهم، ما يؤدي إلى تكريس التخلف الحضاري الذي تعاني منه أمتنا منذ عصور الانحطاط! وبالتالي فـ(الرؤية الحضارية) لدى أولئك الكتاب والمثقفين تتمثِّل في وجوب إعلان القطيعة التامة مع هذا التاريخ الممتد على مدار 14 قرنًا، كي يسهل السبيل نحو النهوض في الواقع المعاصر، والانطلاق الحقيقي لمشارف المستقبل بأدوات العصر.

ابتداءً سأفترض جدلاً أن هذه الرؤية تعبّر عن وجهة نظر (محترمة) وإن كانت غير منطقية، لذا ينبغي التعامل معها بوعي وإن لم يتم قبولها، وعليه يمكن مناقشتها وبيان الخلل فيها، من واقع الممارسات الفكرية لتلك الشريحة المثقفة مع التاريخ بشكل عام، بحيث تتضح إجابة سؤال المشكك أو المستغرب: لماذا رؤية أولئك الكتاب والمثقفين غير منطقية ولا يمكن قبولها؟ لأنَّ الإشكال ليس في الموقف الفكري من التاريخ عمومًا، من حيث قبوله أو رده، أو مدى الاتفاق حول علاقته بتفاصيل حاضرنا وتأثيره في صياغة مستقبلنا، إنما الإشكال الحقيقي في (الانتقائية المتطرفة)، التي تمارسها تلك الفئة المثقفة في كتاباتها الصحافية وأطروحاتها الإعلامية وندواتها الثقافية! وهي انتقائية ينطبق عليها وصف (الكيل بمكيالين) بما يشبه التعامل الغربي مع قضايا أمتنا الإسلامية والعربية على وجه أخص.

يتجلى الكيل بمكيالين مع تاريخنا الإسلامي مقابل التاريخ الغربي، في أن أولئك الكتاب والمثقفين يؤكدون وجوب إعلان القطيعة مع الماضي (التاريخ) والعيش بلغة الحاضر وظروفه وفق روح العصر المتميزة بالعلم المذهل والتقنية المتسارعة، في الوقت ذاته يعودون إلى هذا الماضي وينبشون في صناديق ذاكرة أيامه بحثًا عن كل ما يُدين الظاهرة الإسلامية المعاصرة على اعتبار أن مرجعيتها الفكرية هي في تراثنا الفقهي وتاريخنا الإسلامي المجيد وحضارتنا العريقة، فتجدهم يقتاتون على موائد المستشرقين، فيجترون عبارات التزييف ويستحضرون أحداثًا سلبيةً تضع المسلمين في خانة الهمج والرعاع والأمة المتخلفة، فلا يعرفون من تاريخنا إلا حـز الرؤوس وملاحقة المبدعين باسم الإلحاد الزندقة، وعصر الجور وليالي الفسوق في دار الخلافة، وحرق الكتب وإعدام الفلاسفة، والمذابح الطائفية، والتعصب المذهبي وغير ذلك. في المقابل تجدهم يُسطّرون كل عبارات الثناء والإشادة بالتاريخ الغربي والتغني بفلاسفته ومفكريه، مع تجاهل تام لكل مخازي هذا التاريخ وحروبه الأهلية أو الدولية، مستحضرين التجربة الحضارية التاريخية للغرب بكل مراحلها وبواعثها وأدواتها في جانب التمجيد والتميز والتفوق الحضاري، متطلعين إلى تكرار التجربة الحضارية المعاصرة للعالم الإسلامي على غرارها وليس امتدادًا لتجربتنا الحضارية العريقة. والمضحك أنك عندما تناقشهم حول مخازي التاريخ الغربي وفظائعه يطالبونك أن تمارس العقلانية بالبحث عن الإيجابيات في طيات تلك المخازي والفظائع، بالرغم من أنهم لا يتحلون بهذه العقلانية في تعاملهم مع تاريخنا الذي هو تاريخهم ومصدر اعتزازهم.

نحن لا ننكر وجود صور قائمة وممارسات سلبية وانحرافات سياسية في تاريخنا الإسلامي، غير أن هذا التاريخ يكتنـز إنجازات عديدة، ويحكي أمجاد خالدة، ويعبر عن تجارب ثرية في كل ميادين الدين العلم والمعرفة والسياسة والفنون وغيرها، التي تجلت في حضارة عريقة تُعدُّ واحدة من أبرز الحضارات الكبرى التي تزيِّن المسيرة الإِنسانية، وأسهمت في بناء الحضارة الكونية. وبهذا لا ينفصل واقعنا عن ماضينا بل هو امتداد له، كما أنه من ماضينا نستلهم الطريق نحو مستقبلنا، فمن يذكر جور الحجاج نُذكّره بعدل الفاروق وقس على ذلك، أما التاريخ الغربي فنتلمس منه التجربة التي تضيف إلى خبراتنا، ونأخذ منه المعرفة التي لا تتعارض مع أبسط المفاهيم والقيم الإسلامية فالحكمة ضالة المؤمن. فلا تبعية فكرية إلا لماضينا بتاريخه المجيد وفقهه العظيم وحضارته العريقة.

kanaan999@hotmail.com
تويتر @moh_alkanaan
 

يرفضون الماضي ويعيشون فيه!
محمد بن عيسى الكنعان

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة