ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Sunday 08/07/2012 Issue 14528 14528 الأحد 18 شعبان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

محليــات

      

من المشاهد المألوفة التي كنت أراها في صغري لما كنت أقلب صفحات المجلات هو مشهد الكاوبوي الذي كان جزءًا من حملة دعائية ضخمة لنوع من السجائر، ذلك أنه بعد ظهور المُصفّيات (الفلترات) على السجائر التي ظن الناس أنها تحميهم من السرطان صارت الصورة الشائعة أن هذه المصفيات أنثوية الطابع، وخاصة هذا النوع من السجائر بالذات الذي أصلاً أُنتِج موجَّهاً للنساء، فرغبت الشركة في تغيير هذه الصورة لأنهم علموا أن أكبر شريحة من الزبائن هي فئة المراهقين الذين لهم ميل إلى التمرد على الأهل ومخالفة أوامرهم، فتأملوا ما أخبث نواياهم، كله من أجل المال!

لما هموا بهذا التغيير الكبير اتجهوا نحو أحد كبار الدعاية والإعلان وهو «ليو بورنيت»، وهذا شخص صنّفته مجلة تايم كواحد من أشد الناس تأثيراً في القرن الماضي وذلك بسبب دعاياته الذكية التي أنجحت الكثير من الشركات ومنتجاتها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي التي ما زالت آثارها باقية إلى اليوم، وبينما ركزت بقية شركات السجائر على محاولة إثبات أن سجائرها أخف ضرراً وأن المصفيات تنفع في الحماية من السرطان والجلطة وغيرها من الأمراض التي يسببها التدخين فإن ليو بورنيت أهمل هذا كله وعزم على توَجّهٍ مختلف تماماً، فاقترح على هذه الشركة حملة دعائية لا تركز على الأمور الصحية التي ستُرسِّخ بغير قصد في عقول الناس فكرة أن السجائر قاتلة، وإنما فكرته كانت عن حملة لإبراز أن هذا النوع من السجائر مرتبط بالرجولة (هكذا زعموا)، وهنا ظهرت فكرة الكاوبوي الشهير، فاستعانوا بممثل يلبس لباس رعاة البقر الأمريكان وليس إلا هو وأنبوب السرطان في فمه في البرية ولا شيء غير هذا، وعلى نفس الفكرة أضافوا المزيد من الدعايات التي فيها مِهن رجولية أخرى مثل صانع سلاح وقبطان سفينة ونجم رياضي، ولكن تلك لم يكن لها نفس التأثير فقطعوها واكتفوا بالكاوبوي، ونجحت الحملة نجاحاً هائلاً جعل الناس ينسون أمور الذبحة القلبية وتصلب الشرايين وتصدَّر هذا النوع من السجائر بلا منازع. السجائر نفسها لم تتغير! وكانت الشركة لما قاموا بصنع وتسويق هذا النوع -كما ذكرنا- تُركِّز على إظهار أنها رقيقة وأنثوية وناعمة، ثم في طرفة عين غيروا الدعاية فقط إلى نوع المنتج، وأقبل الذكور بالملايين وقد اقتنعوا أن هذه السجائر التي كانت أنثوية بالأمس صارت في قمة الرجولة اليوم، فسبحان الله ما أسهل التأثير على العقول البشرية!

مرت السنين والحملة قائمة بقوة واستخدموا أكثر من ممثل في دور الكاوبوي، وهنا الأمر الذي يستحق التأمل، ذلك أن ثلاثة من هؤلاء الممثلين ماتوا، وماتوا تحديداً بمرض سرطان الرئة نتيجة تدخينهم، ومنهم الممثل واين مكلارين، فلما حل به سرطان الرئة حاول شتى العلاجات، فجرب العلاج الكيميائي فلم ينفع، وجرب العلاج الإشعاعي فأخفق، فاضطر الأطباء إلى استئصال إحدى رئتيه ومع ذلك لم يتحسن، بعدها استشرى السرطان في جسده حتى وصل إلى مخه فقتله، وكان لما علم بالمرض تحول ضد التدخين وصار يخطب الناس في أضراره ويشارك الحملات الحكومية لمكافحته، وأما شركة السجائر فانقلبت ضده وزعمت أنه لم يتعاون معهم إطلاقاً ولم يمثل في أي من دعاياتهم!

من أبرز الأشياء التي تمخضت عنها تلك القصة هي أن مكلارين ظهر في دعاية قوية ضد التدخين، نراه فيها مستلقياً على فراش الموت والأنابيب الكثيرة متصلة بجسده، ونسمع صوتاً يتكلم -هو أخوه- ويقول إن شركات السجائر تشجع الناس والصغار خاصة على التدخين زاعمة أنه نوع من الاستقلالية، ثم يسأل المتكلم: «كيف ستكون استقلالياً وأنت مستلقٍ هكذا متصل بكل هذه الأنابيب؟»

مات مكلارين وبقي كلام أخيه يأسر الذهن بصدقه وبساطته، حفظنا الله وإياكم من خطر هذا الوباء.

 

الحديقة
عندما تكون الاستقلالية انتحاراً
إبراهيم عبد الله العمار

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة