ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Tuesday 25/09/2012 Issue 14607 14607 الثلاثاء 09 ذو القعدة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

إحدى الكُبر أن تبوح بمكنونك، وإحدى الكبر -أيضاً- أن تُكَتِّم هواجسك المؤرقة لك. فالأولى تكشف عوارك, والثانية تبري جسدك، على شاكلة: (مالي أكتِّمُ تفكيراً برى جسدي) مع الاعتذار لـ”المتنبي”..

ولقد يكون من المنفِّسات التفكيرُ بصوت مرتفع، عندما لا يكون بحضرتك إنسٌ ولا جانٌّ.

حَتْمًا سيحكم عليك الخليون بالجنون, لو سمعوك تحدث نفسك بتلك النَّبْرة العالية. وكيف لا تَسُوغُ لك مناجاةُ النَّفْس؟.. وفي داخلك شركاء متشاكسون. فالإنسان مخلوق عجيب، ولهذا قال الله تعالى :- {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} “الذاريات :21” وقال:- {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} “فصلت:53”. فالنفس كون مدهش، وبخاصة حين هبطت في جسدها المادي من المحل الأرفع، بما هي عليه من خصوصية، لا تمت بصلة إلى المحسوس, ولا إلى المعقول، لتكون كما تصورها “ابن سيناء”: محجوبة وإن سفرت ولم تتبرقع. وِلمَ لا تنبعثُ الدهشة على أشدها؟.. وكل واحد منا مكتنف بعقل فضولي، وعاطفة جياشة، وغرائز ثائرة، وشهوات مائرة، وأهواء جامحة, ونفس ثلاثية الأبعاد: أمَّارة، ولوَّامة, ومُطْمئنَّة, وشيطان مُقَيَّض: {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} “الزخرف:36”. ثم إن الإنسان في القرآن موصوف بأقذع الأوصاف، فهو: ضعيف، يؤوس، قنوط، كفور، ظلوم، خصيم، عجول, قتور، جدل, هلوع، طاغ، كنود. ولأنه بهذه الصفات المفزعة. فإن تفكيره, وتساؤله, لا يقفان عند حد. ولما نزلت آية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } “البقرة:284” أشكل ذلك على الصحابة، رضوان الله عليهم، وهم من هم في الامتثال، وقوة الإيمان. وماسكن روعهم حتى نزلت آية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} “البقرة:268”.. وكيف لا يُشْكل هذا الوعيد، والإنسان مفكر في طبعة، ألدُّ الخصام في جدله، لا يتردد في خوض عالم الغيب، والبحث عن المجهول، والقول فيما لا يمكن تصوره. فالله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} “الشورى:11” والجنة “فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”, وأحوال أهل القبور، لا يعلم كنهها إلا الله، ومن وكل بها من الملائكة. و{الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}” الإسراء :85” ومع ذلك فجها بذة العلماء، وأساطين المفكرين، وعمالقة العقلانيين والفلاسفة, لا يترددون في موضعة الذات الإلهية، وتصور الجنة، وتخيل النار، واستكناه عذاب القبر.. فأصحاب الرقائق يمعنون في توصيف الجنة ونعيمها وحورها العين, والنار وقعرها, و عقاربها، و حيَّاتها، وعذاب القبر، وأهواله، والروح وخصائصها, والقضاء والقدر ومفاجآتهما. والمتيقن أن القدر سر الله في خلقه، كما يقول “علي” عليه السلام، ومن ثم لم يستوعبه موسى عليه السلام، فكان أن واجه “اخضر” بتساؤلاته: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} “الكهف:71”.{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} “الكهف:74”.. {لَوْشِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} “الكهف: 77”, وكل ذلك من فضول الإنسان, والرجم بالغيب.

لقد سمع العرب القرآن, فبهرهم، وشد انتباههم، وخافوا على أنفسهم من تأثيرة، حتى بلغ بهم الخوف حد التواصي: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} “فصلت:26” ومع ذلك فإنهم لم ينشغلوا إلا بإعجازه البياني، ولم يوغلوا في البحث عن متشابهه وغيبياته, وجدالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بداياته حول عالم الشهادة {أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً } “النازعات:11” لقد قنعوا بالحياة الدنيا، وقطعوا بأن الحياة الآخرة {كرَّةٌ خَاسِرَةٌ } “النازعات:12”, ولم تكن لهم طموحات فيما بعد الموت, كانت تلك رؤيتهم, يوم أن لم يكن بين أيديهم قرآن يتلى، ولا أهل كتاب يحاجون في المتماثلات, أما وقد فَتَّق القرآن أذهانهم، وفَصَّل القول في عالم الغيب والشهادة، وأثار الكتابيون انتباههم، فقد استهواهم ذلك العالم المجهول، ووجدوا فيه مغامرة فكرية, داخلها مفقود، وخارجها مولود. ويقيني أن تقحم المجهول من ذلك التفكير الخارج عن محيط الجاذبية.

ولأن التفكير من لوازم الإنسان, فقد عفي له عما حَدَّث به نفسه, مالم يعتقد أو يقل، ففي البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها، مالم تعمل به، أو تَكَلَّمْ). ولعلنا نذكر تلك الهواجس المزلزلة لليقين, التي تبلغ بالإنسان حد التساؤل عَمَّنْ خلق الله، والسؤال عن بدء الخلق، و إعادته, وعما تنقص الأرض من الأحسام، بعد أن صار أديم الأرض منها, كما يقول “المعري”, وكما يقول المتصوفة عن الفناء الباقي.

لقد راقت لي ملاحقة علماء الفلسفة, من عرب وعجم، وموحدين وملحدين ممن قضوا حياتهم في الحفريات المعرفية، والإيغال في المجهول، وأشفقت عليهم، إذ لم يجنوا من وراء ذلك إلا خيبة الأمل، حتى قال قائلهم:

(نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا)

وأثار فضولي فضولُ الحديث عن الذات الإلهية، وتصورها، واختلاف العلماء, وتكفير بعضهم لبعض، وإيغالهم في تصور الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية والألوهية، والاعتراض الصارخ على التقسيم الثلاثي للتوحيد عند “ابن تيمية”, وتصور الجهة والتحيز والإستواء واليد والرجل والأصابع والوجه, والمجئ والنزول, ومحترزات تلك المسائل، وإعادتها جذعة، كلما خبت في كل عصر ومصر، وما من مغرم بهذه الغيبيات، إلا هو مكرر لما قيل من قبل، وكأن الشاعر عناهم بقوله:

(ما ترانا نقول إلا معاراً

أو معاداً من قولنا مكروراً)

وهل غادر العلماء السابقون من متردَّمِ؟، ولكنها فتنة الله، التي يضل بها من يشاء, ويهدي بها من يشاء. وكلما أجَلْتُ نظري في حقول الفكر والفلسفة وعلم الكلام في مكتبتي، أشفقت على نفسي، ورثيت لحال الذاهبين الأولين, ممن اجترحوا تلك المهايع، سعياً وراء القبض على الريح أو تصيد الهباء المنثور.

فالملل والنحل, كالأشاعرة, والمعتزلة، والمرجئة، والجهمية، والقدرية والجبرية، وما تفرع منها, كلها تدور حول تصور الذات الإلهية, ومدى تعلق صفات (الله) به، كقولهم: عالم بلا علم، بصير بلا بصر، لا تحويه جهة، ولا يراه في الجنة أحد. ولما كان العقل تصورياً، فقد ارتُهِن لحواسه، بوصفها مصدر كسبه المعرفي. والثابت أن ما قصرت دونه الحواس, يمتنع معه التصور، ومن ثم كان الله فوق التصور والتخيل, وغيبه مثله, لا يظهر عليه أحداً {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} “الجن:27” وحينئذ لا يكون من الغيب.

يتبع..

 

التفكير خارج الجاذبية..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة