Tuesday 01/10/2013 Issue 14978 الثلاثاء 25 ذو القعدة 1434 العدد
01-10-2013

لِكَيْلاَ يَقْتَصِرَ حُبُّ الوَطَنِ على الشِّعارات..!

فَضَّلْت هذا العام ألاَّ أشارك الناس فرحتهم بالكتابة عن [اليوم الوطني]، إذ قلت ما بي في مناسبات سلفت. واكتفيت من ثم بالمراقبة والمشاركة الوجدانية.

وجِيلي الذي أدرك المؤسِّس في مرحلة الطفولة المبكرة، وخالط طائفة من رجاله الأشدّاء، وسمع شطراً من أحاديثهم العفوية عن المؤسِّس، وعن منجزاته، وعن مدى تعطُّشهم إلى أيامهم الخوالي التي قضوها على ظهور الجمال، وفوق صهوات الخيل.

ولما لم نكن على وَعْيٍ تام بتلك الأمجاد، فقد تلاشت حكاياتها العذاب في تلافيف الذاكرات الضعيفة.

لم يكن إذْ ذاك - وفي إطار [البروتوكولات] الرسمية -[يوم وطني] ولكننا كنا نسمع عن [عيد الجلوس] الذي تحتفي به الصحافة في الحجاز من قبل، وفي نطاق ضيِّق.

وحين أصبح من مقتضيات السياسة أن يكون لكلِّ دولة مناسبةٌ سعيدةٌ، تُمكِّنها من تبادل التهاني مع الدول الشقيقة والصديقة، فقد اختار الملك [فيصل] رحمه الله عام 1351هـ يوماً وطنياً، وهو عام أمِنَ الناسُ فيه من خوف، وطَعموا من جوع، وأغيثوا بعد قحط، فكان بحق يوماً نسعد بذكراه، ونحمد الله على جمعه لكلمة الأُمّة، وتوحيد أقاليمها. إذْ كان الملك عبد العزيز - رحمه الله - من قبل يُسمَّى [ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها]، وكانت المناطق تتفاوت في مستوياتها التعليمية، والاجتماعية، وفي أزيائها، ولهجاتها، وسائر شؤونها.

ولما كانت معركة البناء موازية لمعركة التكوين، فقد أدار الملك عبد العزيز المعركتين بحكمة ورويّة، وبُعْد نظر.

كانت الحجاز على جانب من المدنية والتعليم وأبجديات المؤسسات المدنية، فيما ظلّت بعض المناطق دون ذلك، وكانت البادية تعيش حالة من التَّموُّج السكاني، واعتمادها المعيشي على الرَّعْي، وتتبُّع مساقط المطر، والتنازع على الموارد والمراعي، وهذا التَّموُّج يحول دون الاستقرار، ويحرم أبناء البادية من التعليم، ومن سائر الخدمات. وتَحْويل ذِهْنية البادية من سمة الترحُّل إلى الاستقرار، ومن الوبر إلى المدر وتوطينها أشَدُّ صعوبةً من تحويل الجبال الرواسي. ومن ثم بادر الملك عبد العزيز ببناء الهجر، وبعث المعلمين، ونصب الأمراء، وكلَّف بالاحتساب.

أما في المدن [النجدية] و [الجنوبية] فقد بادر بفتح المدارس، وندب إليها من أبناء الحجاز من يضع الأُسس النظامية للتعليم، واستعان بخبرة المصريين وعلمائهم، وانقرضت ظاهرة الكتاتيب. وكان جيلي ممن أدرك الأنواع الثلاثة من التعليم : الكتاتيب، والتعليم النظامي، وحلقات الدروس في المساجد.

ويقيني أنّ جيل النفط لا يعي تلك المراحل، ولا يدرك شيئاً من تفاصيلها، ولم يُتح للجيل المُخَضْرم التواصل مع هذا الجيل، لنقل الصورة المشرفة لجيل الآباء والأجداد، كي تتجلّى قيمة [اليوم الوطني].

لقد اكتفى الإعلام بالثناء والتمجيد، ومع أنه حقٌّ، إلاّ أنه حقٌّ مفضول، فلو نُقِلَتْ مراحل التَّشَكُّل للمجتمع المدني بكلِّ تفاصيلها، لأمكن لهذا الجبل أن يدرك المخاضات والبدايات المتواضعة، ولو درست شخصيات متميّزة أسهمت في تنفيذ السياسة المباركة للملك عبد العزيز، لكانت للوطن صورة أكثر دقّة ووضوحاً وجاذبية.

فمن يعرف على سبيل المثال دور المعلمين، أمثال الشيخ [القرعاوي] في الجنوب، والشيخ [صالح العُمري] في القصيم، وآخرين لا يقلّون عنهم مكانة، برزوا في مجالات الإدارة والتجارة والأمن. إنّ هناك أبطالاً تميّزوا في معركة التكوين، وأبطالاً تميّزوا في معركة البناء، وكان يجب أن يكون للفئتين مكانة في هذه المناسبة. لقد كانت محاولة الاحتفاء برجالات الملك عبد العزيز بداية موفّقة، ولكنها لم تواكب [اليوم الوطني]، وهي من مكوّنات أهميته.

ما كنت أود تناوله في هذه المناسبة المواءمة بين مظاهر الفرحة والأداء الإيجابي،

فهل تحوّلت هذه المظاهر الصاخبة إلى تثقيف مُنَظَّم؟

وهل تُرْجِمت تلك الفرحة إلى عمل يخدم الوطن؟

هذا ما أرجوه، وأتمناه. غير أنّ التفاؤل الساذج يكرّس السلبيات، بحيث تألفها الأجيال، ويظنون أنّ المظهرية وحدها كافية للتعبير عن مشاعر الفرحة.

لقد رأيت كغيري أمواجاً من الشباب، وأكداساً من السيارات، وأعلاماً تخفق، وحناجر تهتف، ورجال أمن وجلين، وأفراد مرور حذرين، يحاولون السيطرة على هذا التدفُّق المخيف. وكل هذه الجموع لم يدفعها أحد إلى الشوارع والميادين، ولم يكن لها تنظيم من جامعات أو مدارس، بل هو تدفُّق عفوي حر، أملاه الحب للوطن. وعدت أسأل: ما مفهوم الوطنية عند هذا الجيل العاطفي؟.

أهو حُبُّ جِبِلِّيٍّ للأرض التي وُلدوا على أديمها، ودرجوا فوق غَبْرائها، أم هو شيء آخر؟.

إنّ الحب الجِبِلِّي غير كافٍ، فكل الناس، بل الحيوانات تحب أرضها وتأوي إليها:-

[بلادي وإن جارت عَليَّ عزيزة

وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام]

ولكي نتجاوز الحب السّلبي، لا بُدَّ مِنْ تحرير مصطلح الوطنية. فالشباب يحبون أرضهم وأهلهم وقيادتهم، وهذه ربما تكون من المسلّمات، ومن ثم نرى الأمواج المتدفقة تحمل الرايات والصور وتتشح باللون الأخضر بوصفه لون العلم، ولكنه حب غير موجَّه، حبٌّ عاطفيٌّ جيّاش، يشتعل في المناسبة، ثم يخبو لتعود السّلبيات والاتكاليات ومناقضة المقتضيات.

الوطنية: [دينٌ وجماعةٌ وأرضٌ، وفعلٌ] تلكم هي المواطنة الصحيحة. فلا وطن بدون عقيدة، ولا عقيدة بدون قيادة حكيمة مهيبة، وهي الجماعة التي يد الله معها، ومن شذّ عنها شذّ في أتون الفتن، وهي الأرض التي يُمارس فوقها الدين ووحدة الصف والهدف والكلمة، وهي فِعْلٌ تتحقق معه عمارة الكون. فالإنسان المسلم مطالب بثلاث مهمات: عِمارة الكون، وعبادة الخالق، وهداية البشرية.

ولما كانت [المملكة العربية السعودية] متوفّرة على تلك المكوّنات منذ بداية [اليوم الوطني]، كان من أوجب الواجبات أن يعي أبناؤها ذلك، وأن يسعوا من أجله، وأن يحافظوا على كافة المكتسبات.

السؤال الأهم:- هذا الشباب البريء الفطري المتدفّق كالأمواج في الشوارع والساحات: هل يعي هذه المكوّنات للوطنية؟

وهل يعمل للمحافظة عليها؟.

إننا نجد من بيننا من لم يع ذلك، ونجد من بيننا من يشقّ عصى الطاعة تحت أيّ مسمّى ما أنزل الله به من سلطان، ويقع في نواقض الايمان من حيث لا يحتسب، ويفارق الجماعة، ظناً منه أنّ معالجة التقصير لا تتم إلاّ بالاستبداد بالرأي، وتبنِّي الرؤية الذاتية، وإن فارقت رأي الجماعة، و فَتَّتْ في عضد اللُّحمة الوطنية.

إنّ التنقيب في الظواهر الغريبة والتصرّفات الأَغْرب، والاعتماد في كافة الحرف والصناعات وسائر المهمات على الوافد الأجنبي التي ما كان جيلي يعرف شيئاً منها. والدخول على المواقع، وملاحقة التغريدات، وتقصّي أخبار المتفلِّتين على السلطة والمتقاطرين على بؤر التوتر، والإساءة إلى سلفية الأمة السِّلْمِيَّة. كل ذلك يوحي بأنّ حبّ الوطن كائن مع وقف التنفيذ عند طائفة من الشباب المغرّر به. ومتى ألفنا هذه الانشقاقات، وعايشنا هذه التصدُّعات دون مواجهة حوارية لا صدامية، فإننا سنفقد هذه المكتسبات التي يغبطنا عليها الأصدقاء، ويحسدنا عليها الأعداء.

فمتى نتجاوز الهتافــات إلى العمل ؟.

إنها مطالب أولية لا تحتمل التسويف.

Dr.howimalhassan@gmail.com

 
مقالات أخرى للكاتب