Saturday 05/10/2013 Issue 14982 السبت 29 ذو الحجة 1434 العدد
05-10-2013

وكلُّ إنسانٍ خلق لما هيئ له

النضج السياسي في مجتمعات كتونس ومصر وليبيا كما كتبت مراراً ضرورة من ضروريات الحكم، فالشعارات المدوية التي توجه لحشد الجماهير وراء مراجع مذهبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية،

لا يمكن أن تثبت أركان النظام أو أركان الحكم، بل ستعيش تلك الحكومة فوق بركان نائم يمكن أن يستيقظ في أي وقت ويأتي على الأخضر واليابس.. واستعمال الدين لأغراض سياسية خطر على الدين وخطر على السياسة، ونستحضر هنا ما كان قد أكده الملك عبدالله بن عبدالعزيز في كلمة له إلى مواطني المملكة والمسلمين بمناسبة حلول شهر رمضان الماضي أن السعودية “لن تسمح أبداً بأن يستغل الدين لباساً يتوارى خلفه المتطرفون والعابثون والطامحون لمصالحهم الخاصة، متنطعين ومغالين ومسيئين لصورة الإسلام العظيمة بممارساتهم المكشوفة وتأويلاتهم المرفوضة”.

واعتبر أن “الإسلام يرفض الفرقة باسم تيار هنا وآخر هناك، وأحزاب مثلها تسير في غياهب ظلمتها (...) ضلت السبيل، والمملكة بذلك تعلن أنها لن تقبل إطلاقاً وفي أي حال من الأحوال أن يخرج أحد في بلادنا ممتطياً أو منتمياً لأحزاب ما أنزل الله بها من سلطان، لا تقود إلا للنزاع والفشل”، وندد بكل “مؤدلج في فكره مفتون في منهجه لم يسلم من شره أرض ولا حرث ولا نسل”.. وفي العديد من الأقطار العربية التي دخلتها آليات الديمقراطية الحديثة كمصر وتونس، تغلب على المقترحات التي يعرضها المرشحون في الانتخابات المحلية والتشريعية الشعبوية أكثر من العقلانية، ويخاطبون العوامل الثقافية والدينية التي يجد لها الخاص والعام آذاناً صاغية، وتمثل الأطر المؤسسة لحالة الاستقبال الجاهزة للتجاوب خاصة مع الذهنية الشعبية العامة.. فتأسيس السياسة يكون في منحى واحد ويبتعد عن التطرق الصحيح والعقلاني لكيفية إصلاح الدولة اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، وأنا لست في وارد إلقاء اللوم على من يستعمل رموز مرجعيته في مشروعه السياسي، لأن الديمقراطية تقتضي حرية التعبير والمرجعيات، ولكن أنتقد الأحادية في التفكير والابتعاد عن العقلانية وإعمال الفكر الواقعي، والأحزاب السياسية والمرشحون من حقهم أن يختاروا البيئة المثالية للعمل وللاستثمار الحزبي جلباً للأصوات الظاهرة والخفية، والسياسي الحقيقي هو الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، ولكن العقلانية السياسية تقتضي أيضاً تجاوز مصدر التمثلات والمعايير والرغائب التي هي بمثابة المشترك الأكبر بين الناس والطبقات والأجيال، إلى خطب وبرامج عقلانية لا تهدف فقط إلى إشباع الحاجات الروحية والاجتماعية عند الإنسان، ولكن إلى إشباع حاجاته المعيشية والتنموية أيضاً، وهذا هو المنطق.

ثم إن الرجوع بالمجتمع إلى الماضي والنبش في الملفات القديمة فقط لخلق الشعبوية وحشد الجماهير لا يِؤتي أكله دائماً.. قد يؤتي أكله مثلاً عندما تتصالح الدولة مع مواطنيها وتقوم بجبر الضرر كما وقع في إفريقيا السوداء أو في المغرب في السنوات الأولى من وصول العاهل المغربي إلى مقاليد الحكم، بحيث أعطيت الكلمة لمن كان ضحية لسنوات الرصاص في سبعينيات القرن الماضي وتعويض المتضررين عن ذلك، وهذا ما يسمى في أدبيات العلوم السياسية بالعدالة الانتقالية.. تلك مسألة محمودة تقوي المواطنة وتجعل الإنسان يشعر بحنان ودفء البلد الحاضن.

ويجب التشبع بالبراجماتية والحزم في القرارات المصيرية والابتعاد عن الشعبوية، وعن سياسات مؤقتة يؤدي ثمنها البلاد والعباد. كما يجب أخذ الحيطة والحذر عند أخذ القرارات الاقتصادية، لأن المرحلة صعبة للجميع وعلى البلدان أن تتجنب مرحلة أزمة الثقة، فدور الحكومات يجب أن يكون هو طمأنة الرأسمال الوطني وتحفيز الأموال الأجنبية لجلب الاستثمار وخلق فرص الشغل وتحقيق التنمية.

والمشكلة في علوم الاقتصاد -على عكس بعض العلوم الأخرى كالطب أو الهندسة الزراعية أو الفيزياء- أنها ليست علوماً تجريبية في الأساس؛ فلا مكان لمختبرات اقتصادية تكون محطة تقام فيها التجارب لدراسة صحة الفرضية أو بطلانها، بل عادة ما تعلن الفرضية أولاً ثم لا تظهر ملاءمتها إلا فيما بعد. وإتباع هذه الطريقة للوصول إلى الحقيقة مكلف للغاية.. ويذكرنا الخبير البولندي كولودكو أن دول أوروبا الشرقية مرت بهذا عندما تحقق أولو الأمر عندهم وعلى مدى سنوات من مدى صحة الفرضيات التي وضعت حول فعالية التخطيط المركزي، الذي أسهم في حل الكثير من المشكلات في المرحلة الأولى من الاشتراكية، ولكنه انتهى إلى نظام فاشل شكل عبئاً على الاقتصاد الذي لم يعد قادراً على مجابهة الآثار السياسية والاقتصادية لهذا التحول في الليبرالية الجديدة.

يقول كولودكو إنه إذا أردنا تطبيق الاقتصاد البراجماتي-القائم على تأكيد الفرضية العلمية من خلال العمليات الاقتصادية الواقعية-، فمن الضروري أن نتحرى المهارة في التنفيذ، لأن الناس ليسوا فئران تجارب؛ وهذا كلام صائب، بل إن الناس في يومنا هذا قد يصبحون أسوداً يخرجون إلى الشوارع لنزع الحكومات من كراسيها لأن سياساتهم الاقتصادية باءت بالفشل الذريع وهو ما وقع مؤخراً في اليونان وإيطاليا وإسبانيا وغيرها.

للأسف الشديد تكون الغلبة في مجالي السياسة والاقتصاد في بعض الأحيان للجهلاء أو ممن لهم شعبوية مفرطة وعقل فارغ لا يفقه شيئاً عن الشأن العام.. وعندما تكون الغلبة لأشباه العلماء، فإنهم يميلون إلى النظريات المفرطة في البساطة أكثر من ميلهم إلى البراهين العلمية المعقدة؛ ولقد لخص أندرو رينولد (Andrew Reynolds) وهو ناقد أدبي بريطاني مشهور هذا الكلام حينما كتب: “كلنا لدينا بلهاء.. وقد تتمثل الإخفاقات الرئيسية المشتركة بيننا في أننا على استعداد لتصديق أكثر الترهات سخافة إذا كانت توافق قناعاتنا التافهة المثالية الأنانية المتصورة مسبقاً عن العالم، وفي أننا نظن بسذاجة أن أولئك الذين تسيطر -أو ستسيطر- خرافاتهم وكلامهم وأموالهم على عقولنا وحياتنا لم يضعوا نصب أعينهم إلا ما هو في مصلحتنا. ولا يكون البلهاء قادة سياسيين تحديداً، بل من الممكن أن تجدهم في وسائل الإعلام، والشركات متعددة الجنسيات، والكيانات الاقتصادية الأخرى، والحركات الثقافية والنظم العقائدية ومؤيدي الإيديولوجيات من جميع الأنواع”. ويقول كولودكو إن من الأفضل تجنب البلهاء، وعدم الاكتراث للبلاهة، ولكن نحن بحاجة أولاً إلى معرفة كيفية تمييز البلاهة عن المفاهيم المفهومة والمنطقية.. ولعمري إن هذا ليس بالأمر الهين سواء في علم الاقتصاد أو في باقي العلوم الاجتماعية الأخرى.

فعند الرأي العام، يكون مسمى “الاقتصادي المرموق” مرادفاً لمسمى”الاقتصادي المشهور”. وعلى الوزن نفسه يمكن القول إن مسمى “السياسي المرموق” يكون في بعض الأحيان مرادفاً لمسمى “السياسي المشهور”، فكم من سياسي بلغت شعبويته المدى في الوصف في أوطاننا العربية، ولكن أن يبقى في بيته أفضل للبلاد والعباد من أن يسيّر ولو قطاعاً بسيطاً داخل المجال العام لأن أدواته العلمية محدودة وقواه التسييرية مفقودة! وكم من حكيم، على حضرته يمكن أن تعكف ركائب العلوم والحكم وفي منظوره التسييري يمكن أن تتحقق التنمية، وهو الصالح لهذا الزمان في حل مشكلات البطالة، ولكنه يبقى مغموراً في بيته.

إن أفضل علاج لهذا الداء في مجتمعات هي بين قوسين أو أدنى من الانهيار، وهذا حال العديد من الدول العربية، هو وضع “الاقتصاديين الحقيقيين” و”السياسيين الحقيقيين” في أماكنهم الحقيقية، حتى نضع الحكمة والمعرفة في مكانهما ولا مجال للشعر والشعبوية هنا، وكل إنسان خلق لما هيئ له.

 
مقالات أخرى للكاتب