Friday 11/10/2013 Issue 14988 الجمعة 06 ذو الحجة 1434 العدد

داعياً الحاج على أداء مناسك حجه كما أمر الله بها ووفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم

سماحة المفتي العام رئيس هيئة كبار العلماء: الحج مدرسة لاكتساب الأخلاق الحسنة

سماحة المفتي العام رئيس هيئة كبار العلماء: الحج مدرسة لاكتساب الأخلاق الحسنة

الرياض - «الجزيرة»:

أكد سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء أن للعبادة روحاً ولُباًّ ينبغي للمسلم أن يحرص عليه، لتتحقق ثمرة العبادة في توطيد علاقة العبد بربه سبحانه وتعالى، ولتؤثّر على أخلاقه وسلوكه تأثيراً إيجابياً، فإذا اقتصرت العبادة على الحركات الظاهرة، وتخلَّفَ عنها لبُّها وجوهرها من الإخلاص والخشوع والخضوع لله والذل والانكسار بين يديه، والتخلّق بالفضائل ومكارم الأخلاق كان العبد مؤدياً لصورة العبادة لا لحقيقته.. جاء ذلك في حديث لسماحته بعنوان: (الحج مدرسة لاكتساب الأخلاق الحسنة) فيما يلي نصه:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد:

فإنَّ دين الإسلام جاء لتنظيم علاقة الإنسان بربه، وتنظيم شؤون حياة الفرد والجماعة، فجاءت تعاليمه مشتملة على العقيدة والشريعة والأخلاق، تهدف إلى تحقيق السعادة الحقيقية للإنسان على وجه هذه البسيطة وتوجيهه نحو السبيل السوي والصراط المستقيم في معاشه في هذه الحياة الدنيا وفي سيره إلى الدار الآخرة التي هي دار المقام والحياة الأبدية.

فالعبادات بعد توحيد الله سبحانه وتعالى من أهم مكونات دين الإسلام، شرعها الله لحِكَم عظيمة سواء أدركها العقل أو لم يدركها، فكل ما شرعه الله حق وحكمة، وفيه مصلحة للعباد، فالله عليم بخلقه، وما يصلحهم، وحكيم في قضائه وتشريعاته.

فالله سبحانه وتعالى لم يكلِّفنا بالعبادات لأجل الإشقاق علينا، أو أدائها طقوساً فارغة لا روح لها ولا حكمة ولا غاية، ولم يكلّفنا بها لحاجته سبحانه وتعالى إليها، كيف وهو يقول: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء}، بل شرعها سبحانه وتعالى لمصلحتنا وتربيتنا، لتكون هذه العبادات زاداً لنا على طريق الهدى.

وكيف لا يكون للعبادة حِكَماً وهي الغاية التي خلق الله الخلق لأجلها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، ولأجل تحقيق هذه الغاية في حياة الناس بعث اللهُ الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقال صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ لَا شَرِيكَ لَهُ».

فالدين كله داخل في العبادة، وهي أشرف المقامات وأعلاها، وبها نجاة العبد ورفعته في الدنيا والآخرة.

ولعبادة الله أعظم الأثر في صلاح الفرد والمجتمع، فالعبادة سبب نظام المجتمع وصلاحه، وسبيل سعادة الإنسان وفلاحه في الدنيا والآخرة، وكلما كان الناس أقرب إلى العبادة كان المجتمع أقرب إلى الصلاح، وكلما انهمكوا في المعاصي والسيئات وتركوا الواجبات والطاعات كان ذلك مؤذناً بخراب المجتمع وفساده.

ومن المقاصد التي ترمي إليها العبادات في الإسلام تزكية النفس سواء من جهة تخليتها من الأخلاق الرذيلة، أو تحليتها بالأخلاق الفاضلة، كما قال تعالى عن الصلاة: {إن الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، وكما قال تعالى عن الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

ولا يخفى أن للعبادة روحاً ولُباًّ ينبغي للمسلم أن يحرص عليه، لتتحقق ثمرة العبادة في توطيد علاقة العبد بربه سبحانه وتعالى، ولتؤثّر على أخلاقه وسلوكه تأثيراً إيجابياً، فإذا اقتصرت العبادة على الحركات الظاهرة، وتخلَّفَ عنها لبُّها وجوهرها من الإخلاص والخشوع والخضوع لله والذل والانكسار بين يديه، والتخلّق بالفضائل ومكارم الأخلاق كان العبد مؤدياً لصورة العبادة لا لحقيقتها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».

والحج من تلك العبادات التي لها الأثر الطيب على سلوك المسلم وإكسابه الأخلاق الحسنة والسلوك المستقيم وتركه للعادات السيئة والأخلاق الذميمة.

وقد ألمح القرآن الكريم إلى هذه المقاصد في الحج بصورة مجملةٍ في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، وهذه الآية صريحة في اشتمال الحج على منافع للناس، ويمكن أن يحمل تلك المنافع المشار إليها في الآية الكريمة على منفعتي الدنيا والآخرة معاً، وهذا أكثر وجاهة، وبخاصة وأن تنكير المنافع في الآية يدل على عمومها وكثرتها.

فالحج ليس رحلة مجردة عن المعاني الخُلقية وإنما هو تربية على اجتناب العادات المرذولة من الرفث والفسق والجدال قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}.

فمن آثار الحج على سلوك المسلم وأخلاقه:

- أن الحج فيه تحقيقاً للعبودية الخالصة وتجريد التوحيد لله عز وجل، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، فجعل الله الحج له وحده دون سواه.

فأول شيء يبدأ به الحاج من منسك الحج هو التلبية (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك)، ثم تستمر معه هذه التلبية في جميع مناسك الحج وبين المشاعر حتى نهاية أعمال الحج، فهذا يربي فيه جانب الإخلاص وشدة التعلق بالله سبحانه وتعالى، وترك التعلّق بغيره تعالى.

- أن الحج امتثال لأوامر الله واستجابة لندائه، فتتجلى في الحج الطاعة الخالصة والإسلام الحق، قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}.

وأداء المسلم لمناسك الحج والتنقل بين المشاعر المقدسة مع التقيّد بالعدد وبالمكان والزمان المحدد، وغيرها من الأفعال التي هي مبنية على محض الاستسلام والتعبد والتعظيم لشعائر الله، دون أن يعرف المسلم الحكمة في كثير من تلك الأفعال والمناسك، إنما هو بناء على الاستجابة المطلقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فيُنَمِّي ذلك في المسلم روح الطاعة والامتثال لأوامر الله تعالى، والمتابعة والتأسي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم.

- أن الحج سبب لمغفرة الذنوب والمعاصي التي جاء ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».

وبذلك ينقطع المسلم من ماضيه السيء، ويفتح صفحة جديدة من الصلاح والاستقامة على الدين في حياته، ويقوي علاقته بربه سبحانه وتعالى امتثالاً لأوامره واجتناباً لنواهيه.

- أن الحج بمناسكه وأفعاله فيه مخالفة لما كان عليه المشركون في الجاهلية في حجهم، مثل مخالفتهم في التلبية، ومخالفتهم في الاعتمار في أشهر الحج، والوقوف بعرفة حتى المغرب، والإفاضة من مزدلفة قبل شروق الشمس، وغير ذلك.

فهذا فيه تربية للمسلم على أن يتميز عن الكفار في كل شيء، في عباداتهم وأعيادهم ولباسهم وكلامهم، وغير ذلك، فإن الإسلام حرّم التشبّه بالكفار، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ».

- أن الحج يُربي في نفس المسلم البذل والتضحية، ولذا كان الحج باباً من أبواب الجهاد، فالحاج يترك وطنه وأهله وأحبابه, ويبذل المال قربة لله, ويجهد نفسه ويخلع ثيابه ويتجرد من كل شيء طاعةً لله وامتثالاً لأمره، وهذا لون من ألوان الجهاد بالمال والجهد والوقت.

- أن الحج يربي المسلم على نكران الذات، وذلك بالتجرد من كل مظاهر الزينة والترف والتكبر والعجب والغرور، والظهور بمظهر متواضع متخشع متوجه إلى ربه متذلل بين يديه. كما يظهر نكران الذات أيضاً في أن الحاج ممنوع من ترك الجدال وحب الظهور والتعالي على الآخرين.

- أن الحج يعلّم المسلم الاعتياد على اغتنام الأوقات، وأن لكل وقت من أوقات المسلم له وظيفته التي جعلها الله له. فيتقيد الحاج بأداء كل عمل في وقته وزمانه مما يعوّده على ترتيب وقته ومحاولة اغتنامه، وعدم تضييعه.

- أن الحج يُدرِّب المسلم على الصبر بكل أنواعه، الصبر على مشقة الطاعة، والصبر عما حرم الله، والصبر على المشقة والجهد والعنت وفقْد المال وبُعد الأهل والأحباب، وهذا يقوي من إرادة وعزيمة المسلم، ويعينه على تحمل مشاق الحياة.

- أن الحج يُدرِّب المسلم على السيطرة على غرائزه وشهواته، فهو ممنوع طوال فترة إحرامه من قربان النساء ومقدمات الجماع، وهذا يربي الحاج على ضبط نفسه والسيطرة على غريزته الشهوانية.

- في الحج تتجلى المساواة بأسمى صورها الواقعية، كما قال تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، فيذكِّر ذلك المسلم بحق أخيه المسلم، ويحثّه على التواضع له والعناية بشأنه مهما كانت مكانته الاجتماعية، فإن الأخُوَّة الإيمانية فوق جميع هذه الاعتبارات الزائلة، لأن قيمة الإنسان في الإسلام إنما هو بالتقوى والعمل الصالح لا بالمال والمنصب والجاه، قال تعالى: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

- أن الحج فيه يعرف المسلم قدر النعمة التي يعيشها من الصحة والعافية في البدن، ونعمة المال، وذلك مما يشاهده من المرضى والمعاقين والمحتاجين وضعاف الأجسام، فيحمد الله على ما يتمتع به من النعم الوفيرة، ويسعى في شكر تلك النعم باستخدامها في طاعة الله عز وجل، ومدّ يد العون والمساعدة لإخوانه المسلمين.

- أن المسلم في الحج يرى الناس من مختلف الأقطار واللغات والألوان والأجناس والأقوام والقبائل مما يدل على عظيم قدرة الله، وعلى عظمة هذا الدين وأنه دين الناس جميعاً لا يعرف التمييز بين الأسود والأحمر والأبيض، ولا يميز بين الناس على أساس القبيلة والجنس، وأن الجميع يربطهم رابطة الإيمان، وأن الجميع إخوان في العقيدة والدين، فيقوّي ذلك الإحساس لدى المسلم بالانتماء لأمة عظيمة، والشعور بالأخوة مع سائر المسلمين في مغارب الأرض ومشارقها، والاهتمام بأمرهم، ومشاركتهم في حزنهم وأفراحهم، والعناية بهمومهم وقضاياهم، ومد يد العون إليهم في الشدائد والمضايق.

- وأخيراً فإن الحج يذكر المسلم بيوم لقاء الله، وذلك عندما يتجرد الحاج من ثيابه، ويلبى محرماً، ويقف بصعيد عرفات، ويرى الناس لباسُهم واحدٌ، تجرّدوا عن جميع مظاهر التجمل والزينة، كأنهم يلبسون الأكفان، فيتذكر بذلك موقفه يوم القيامة الذي سيقف فيه المسلم بعد وفاته، فيدعوه ذلك للاستعداد لها وأخذ الزاد قبل لقاء الله سبحانه وتعالى تحقيقاً لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.

فليحرص الحاج على أداء مناسك حجه كما أمر الله بها، ووفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع الإخلاص وابتغاء وجه الله والدار الآخرة؛ حتى يكون حجه مقبولاً عند الله، وحتى يترك آثاره الطيبة على سلوك الحاج وأخلاقه وتغيير منهاجه في الحياة نحو الأفضل.

هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.