Friday 01/11/2013 Issue 15009 الجمعة 27 ذو الحجة 1434 العدد

مع قرب دخول العام الهجري الجديد 1435هـ

أستاذ السيرة النبوية الدكتور عبدالعزيز العُمري يرصد معالم هجرة الرسول من مكة إلى المدينة

الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:

قال الدكتور عبدالعزيز بن إبراهيم العُمري أستاذ السيرة النبوية إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن أول من هاجر من الأنبياء، فقد سبقه - إبراهيم - عليه السلام في الهجرة، قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (26) سورة العنكبوت.

جاء ذلك في مستهل حديث للدكتور العُمري بمناسبة الهجرة النبوية، والعام الهجري الجديد تناول فيه: ( دور الخليفة الراشد أبوبكر الصديق - رضي الله عنه - وأهله في الهجرة النبوية، والخليفة الراشد علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- وفداؤه وأداء أماناته -صلى الله عليه وسلم- يوم الهجرة، وفي الطريق من مكة إلى المدينة المنورة، الوصول إلى المدينة والتأريخ بالهجرة.

وقال الدكتور العُمري في حديث عن الهجرة النبوية أن رسول الله لم يكن أول من هاجر من الأنبياء فقد سبقه إبراهيم عليه السلام كما جاء في القرآن الكريم، وأن اعتداءات المشركين واستفزازهم ومحاولتهم قتله أو حبسه كانت وراء هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن قوم الرسول من كفار قريش تضامنوا على إخراجه منها.

وتؤكد الأحاديث صلى الله عليه وسلم أنه أخرج من مكة، وكان يدعو على من أخرجه. ومن ذلك ما رواه البخاري أنه كان يقول: ((اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف, كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء)).رواه البخاري

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحب مكة أشد الحب، بها ولد وترعرع وتزوج ورزق، إضافة إلى ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلمه الناس من حرمة مكة، ومكانتها عند الله، فهي أفضل أرض الله وبها كان أول مسجد وضع في الأرض{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (96) سورة آل عمران.

ولعل ما يشهد لذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم حينما التفت إلى مكة عند هجرته ((والله إنك لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك)). رواه ابن ماجة

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مستعداً للهجرة تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة بالهجرة, إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطلب التريث من أبي بكر الصديق لأمر يعلمه الله ورسوله, ولا يعلمه الصديق نفسه.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظر الأمر من الله تعالى والإذن له بالهجرة بتدبيره سبحانه وتعالى وهو الذي يمكر لرسول الله ويهيئ له صلى الله عليه وسلم.{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (30) سورة الأنفال.

وكان الصديق رضي الله عنه يستعد لحاجة رسول الله في الهجرة وخصوصاً الرواحل وما يلزمها، قبل أن يعلم أنه رفيقه في الهجرة.

وقد أحست قريش بعد بيعة العقبة بما يعزم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، وخشيت من ذلك خصوصاً بعد أن سبقه عدد من المهاجرين، ولذلك اجتمعوا للمكر بالرسول صلى الله عليه وسلم. واجتهدوا في وضع الخطط ليحولوا دون هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لو وصل الأمر لقتله صلى الله عليه وسلم.

ومن رواية عائشة عن الهجرة وغيرها يتبين لنا دور الصديق رضي الله عنه وأهل بيته في المشاركة في الهجرة. إنها مشاركة مباشرة من أبي بكر الصديق بنفسه وماله وأهله. فمن هذه الرواية للبخاري وما يدعمها من روايات نجد أن الصديق رضي الله عنه كان صادقاً حينما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله)) من رواية البخاري وإن فرح أبي بكر الصديق بصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم كان عظيماً وأي صحبة كتلك الصحبة الواردة في القرآن الكريم ((ثاني اثنين))، حيث نال الصديق من الشرف ما لم ينله أحد من البشر بتلك الصحبة المباركة المنصوص عليها في القرآن الكريم ((إذ يقول لصاحبه)).

تلك الفرحة يعبر عنها الصديق رضي الله عنه حينما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قد أُذن لي بالخروج)) فيقول الصديق رضي الله عنه : الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله,كان مستشرفاً متشوقاً لصحبة خير البشر، في رحلة مباركة جاهزا لترك الأهل والوالدين والمال ومرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.

كانت مرافقة وموافقة نبوية كريمة مباركة، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولذلك فإن هذه الصحبة كانت بعلم الله ورضاه لنبيه بخير رفيق وصاحب.

كان الصديق رضي الله عنه متوقعاً لهذه الصحبة، وإن كان لم يعلم بها إلا ساعة وافق له النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وعندها بكى أبو بكر الصديق من شدة الفرح،ومع هذا فقد كان الصديق محتاطاً للأمر، قد اشترى راحلتين من خاصة ماله لمثل هذا الموقف فقال: يا نبي الله إن هاتين راحلتين قد كنت أعددتهما لهذا, وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً ذا مال فكان حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعجل لعل الله يجد لك صاحباً، قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم , إنما يعني نفسه, حين قال له ذلك، فابتاع راحلتين فاحتبسهما في داره يعلفها إعداداً لذلك.

وعن كيفية هجرة الرسول من مكة قال الدكتور عبدالعزيز العُمري:

قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر للهجرة من خوخه (باب صغير) في ظهر بيت أبي بكر مستخفياً عن الناس الذين ربما كان بعضهم يرقب الباب الرئيسي لبيت أبي بكر مظنة وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بعد بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه هي الحقيقة، حيث انطلقا منه إلى جبل ثور واختفيا في غار فيه، وحين خروج الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة قدم الصديق الراحلة هدية للمصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقدر جهد أبي بكر ويحترم بذلك عطاءه، لكنه رفض أن يأخذ الراحلة إلا بثمنها. إنه الكريم صلى الله عليه وسلم عزيز النفس الذي لم يكن في يوم من الأيام عالة على أحد، كما أن أبا بكر رضي الله عنه قد استأجر عبد الله بن أريقط ليكون دليلاً لهما على طريق مجهولة لقريش لا يتوقعها الناس، إذ إنهما كانا ينويان مخالفة الطريق المشهورة، حتى لا يتم العثور عليهما, وهذا بترتيب الصديق مع الرجل الذي كان محل ثقة ومأمون وإن كان غير مسلم في حينها.

ولعل نقل عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق لهذه الروايات الدقيقة عن حادثة الهجرة وتفصيلاتها التي رواها البخاري (رحمه الله) في صحيحه من أثر آل أبي بكر على الدعوة، حيث كانت عائشة أفضل من نقل الحديث بتفصيلاته.

كما كان أبو بكر أيضاً رضي الله عنه خير رفيق لرسول الله في تلك الرحلة، وظهرت منه مواقف مختلفة كان يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه منها:

إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أقبل على غار جبل ثور ليدخله طلب منه الصديق رضي الله عنه الانتظار حتى يتأكد من الغار وسلامته للرسول صلى الله عليه وسلم.

وأثناء جلوسهما في الغار إذا جُحر فألقمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه رجله وقال يا رسول الله إن كانت لدغة أو لسعة كانت بي. رواه ابن أبي شيبة.

كان رضي الله عنه خائفاً مشفقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء وجودهما في الغار.

وأضاف العُمري قائلاً: وعند خروج أبي بكر الصديق للهجرة حمل ماله كله، خمسة آلاف درهم أو تزيد فدخل والده أبو قحافة وكان عمي وذهب بصره، فقال لأسماء ابنة أبي بكر: إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه فقالت له: كلا يا أبت, إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً، ووضعت حجارة في كوه من البيت ووضعت عليها ثوباً ووضعت يده عليها، فقال لا بأس, وكانت الفضة في ذلك الزمن كتلاً كالحجارة توزن ولا تعد. وسكت الشيخ وكان لم يسلم بعد, حيث كان إسلامه عام الفتح.

كانت بنات أبي بكر من المساهمات في رحلة الهجرة، فقد ورد عن أسماء (رضي الله عنها) قالت: جهزت سفرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة, فلم نجد لسفرته ولا سقائه ما نربطهما به, فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئاً اربطه به إلا نطاقي قالت: فقال: شقيه باثنين فاربطي بواحد السقاء، وبالآخر السفرة, فلذلك سميت ذات النطاقين.

وقد تعرضت أسماء نفسها للأذى من مشركي مكة بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة وكانت زوجة الزبير بن العوام هاجرت إلى المدينة صلى الله عليه وسلم بعد الرسول وأبيها ((وهي حبلى بعبد الله بن الزبير رضي الله عنه فوضعته في قُباء، فلم ترضعه حتى أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه فوضعه في حجره, فطلبوا تمراً ليحنكوه حتى وجدوها فحنكوها فكان أول شيء دخل بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه عبد الله)). رواه ابن أبي شيبة، كما كان عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه يختلف بالطعام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولوالده الصديق وهم في الغار، قبل أخذهما طريق المدينة، كما كان يأتيهما بالأخبار، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه يروح عليهم بغنم الصديق ليأخذوا من حليبها, وقد صحب الرسول والصديق في رحلة الهجرة. وهكذا كان آل أبي بكر الصديق ببيته وماله وبناته وبنيه وخدمه ورعاته عونا للمصطفى صلى الله عليه وسلم في هجرته المباركة إلى طيبة الطيبة.

وعن دور الخليفة الراشد علي بن أبي طالب في هجرة الرسول قال الدكتور عبدالعزيز العُمري: لقد أجمعت الأمة وخصوصاً أهل السنة على محبة علي رضي الله عنه وأُلفت الكتب في مناقبه، وقد ولد علي رضي الله عنه قبل الهجرة بحوالي 23 سنة، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره، عاش في كنف وبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول من آمن به من الصبيان، أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين، ووالد الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدا شباب أهل الجنة، أمه فاطمة بنت أسد..

أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الشباب وصلى مبكراً مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع خديجة رضي الله عنها وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

زوجه الرسول صلى الله عليه وسلم من أصغر بناته فاطمة في السنة الثانية للهجرة، وكان مجاورة للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يأنس بزيارة فاطمة وعلي رضي الله عنهما والجلوس إليهما وتبادل الحديث معهما، وخدم الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وآنسه ووقف معه طيلة العهد المكي، وكأنه ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحينما تشاورت قريش ليلة الهجرة فيما يفعلونه برسول الله صلى الله عليه وسلم واتفقوا على قتله مجتمعين أطلع الله نبيه على ذلك، وأمره جبريل ألا يبيت على فراشه، فدعا صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن يبيت على فراشه، وتسجى علي رضي الله عنه ببرده الأخضر، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم على القوم وهم عند الباب فلم يروه، وأعمى الله أبصارهم عنه فأخذ حفنة من تراب وضعها على رؤوسهم وهو يقرأ من سورة يس.

وقد بقي المشركون يرقبون بيت النبي صلى الله عليه وسلم, وكان بعضهم يرى الفراش وعلي رضي الله عنه فيه مسجى، فيظنونه النبي صلى الله عليه وسلم وينتظرون, مما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم فرصة للخروج مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى الغار.

وهذا العمل البطولي من علي رضي الله عنه واستعداده لفداء الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي ضمن أعمال جليلة وعظيمة قام بها ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره المبشر بالجنة للنبي ودعوته، وهو الذي تربى على الإيمان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تضافرت جهود علي مع جهود أبي بكر وأهله لخدمة الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وأكمل بعضها بعضاً. ولا تناقض في ذلك فهو تكامل وتنافس في عمل الخير، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وخدمته وحمايته.

وقد تأخر علي رضي الله عنه عن الهجرة قليلاً بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي الأمانات والودائع التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش، بمن فيهم المشركون, وكان علي رضي الله عنه أهلاً لأداء الأمانة ومحل ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين والناس جميعاً.

وقد بقي علي رضي الله عنه ثلاثة أيام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة أدى فيها الأمانات ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.

ويتضح أن قريشاً لا تشك في أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم وتثق به على أموالها, وكان صلى الله عليه وسلم أميناً حق أمين، رغم ظروف خروجه المفاجئة للهجرة، ورغم عدائهم له ومحاولتهم قتله وصاحبه. فقد أدى أماناتهم صلى الله عليه وسلم واختار اقرب الناس إليه وأوثقهم عنده لهذه المهمة العظيمة التي أداه علي ثم لحق بعدها مباشرة بركب النبي صلى الله عليه وسلم.وانضم لقافلة المؤمنين المهاجرين في المدينة مجاهدا عظيما في كل مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وكان له أدوار بارزة ومشهورة في بدر وأحد والخندق وخيبر وغيرها رضي الله عنه.

الوصول للمدينة المنورة

أما عن وصول الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى المدينة المنورة فيقول الدكتور العُمري: وصل المهاجرون والأنصار في المدينة خبر خُروج الرسول صلى الله عليه وسلم (فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة, فانقلبوا يوماً بعد ما طال انتظارهم, فلما آووا إلى بيوتهم، أطل رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون, فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين الثامن من شهر ربيع الأول الموافق 21 سبتمبر سنة 622م, فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابته الشمس, فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. وقد ذكرت بعض الروايات أن الذين استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول المدينة كانوا خمسمائة من الأنصار، وبالتالي فإن الذين حضروا إلى قباء بعد وصول الرسول صلى الله عليه وسلم للقائه ربما كانوا نفس العدد أو قريباً من ذلك، مع أعداد أخرى من المهاجرين قد لا يقلون عن المائة، كما تفيد الروايات. وقد بايعه المهاجرون عند ذلك يستشعرون الخطر والتهديد الذي يحيط بالرسول صلى الله عليه وسلم من أعدائه، وبالتالي فهم مستعدون لحمايته وطاعته والتضحية لأجله، وقد بايعه الأنصار مرة أخرى بعد وصوله المدينة، كما تفيد رواية البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه.

وقد كان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء على كلثوم بن الهدم من بني عمرو بن عوف، وعلى سعد بن خيثمة، وكان يستقبل الناس في منزل سعد، وهو مكان لسكنى عدد من العزاب من المهاجرين رضي الله عنها.

لقد كان وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قباء في المدينة يوماً مميزاً اتخذه المسلمون بداية للتاريخ الهجري لما يرون من أهميته.

وعن اتخاذ هذا اليوم بداية للتاريخ الهجري قال: إنه إشارة إلى هذا اليوم بذاته. ولعل ذلك من أسباب اتخاذ المسلمين للتاريخ الهجري، حيث ذكروا أن القرآن الكريم أشار إلى هذا اليوم بذاته، ولذلك رأوا اتخاذ التاريخ الهجري، ورجحوه على غيره من الآراء، كما قال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها، وقد وضع البخاري, في صحيحه باب0التاريخ من أين أرخوا التاريخ في كتاب مناقب الأنصار، ولذلك رأى الصحابة أنه أول الزمن الذي عز فيه الإسلام.

بقي صلى الله عليه وسلم في قباء أقام (أربع عشرة ليلة)، قام فيها ببعض الأعمال، كان أهمها بناء مسجد قباء_كما ذكرنا_, وهو أول مسجد بني في الإسلام، شارك في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالمسلمين فيه. وكان صلى الله عليه وسلم يحث على الصلاة فيه فقال: ((صلاة في مسجد قباء كعمرة)) متفق عليه, انظر: تفسير ابن كثير, ج1/908..

ولا يعني ربط مسجد قباء بهذه الآية تفضيله على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكلاهما أسس على التقوى، ومسجد قباء هو المعني بهذه الآية، وصفات المطهرين وردت في أحاديث كثيرة عن أهل قباء من الأنصار وأنهم كانوا يتبعون الحجارة بالماء في الطهارة. ولا شك أن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في قباء وبعد ذلك مسجده في المدينة يدل على مكانة المساجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله سبحانه وتعالى، وهي مخصصة لعبادة الله وحده.

وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول جمعة في بني سالم بن عوف قبل وصوله إلى المدينة، وكانت أول جمعة في الإسلام.، ولا يزال المسجد حيث صلى صلى الله عليه وسلم مشهوراً في المدينة وهو أحد معالمها الرئيسية.

كان الوصول للمدينة بداية استقرار للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين, وبداية فرح وسرور ونور لأهلها الذين دخل الإسلام معظم بيوتهم, وقد خرج أهل المدينة حتى إن العواتق فوق البيوت يتراءين يقلن أيهم محمد فما رأين منظراً شبيهاً به.

معالم الطريق

وحول معالم الطريق والأيام التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة من مكة للمدينة يقول د. العُمري: في بداية الهجرة مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ثلاثة أيام في غار حراء في جبل ثور جنوب غرب مكة عكس اتجاه الطريق إلى المدينة زيادة في السرية وبعيداً عن الطلب.

وقد جعلت قريشاً جائزة مقدارها مائة من الإبل لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً (من رواية البخاري) مما دفع الكثيرين للبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجدية تامة في كل اتجاه وطريق قريباً من مكة.

ومع وصول المشركين إلى الغار أكثر من مرة فإن الله حمى نبيه صلى الله عليه وسلم.

فلما هدأ بحثُ المشركين وطلبهم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً من الغار، ومعه أبو بكر الصديق والتقيا بعبد الله بن أُريقط دليلهما ومعه الراحلتين، فسلك بهما الطريق من أسفل مكة ثم عارض بهما الساحل، ثم مر بهما على مجازات وطرق وأودية ما كان الناس يسلكونها إلى المدينة،زيادة في التعمية على المطاردين. وما كانت تلك المسالك مظان أن يعبرها المسافر العادي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً، ولذلك استأجر مع أبي بكر هذا الخبير بالطريق الخريت، كما وصفته أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها). وفي الطريق حدثت لهم عدة حوادث، ومنها ما رواه أبو بكر قال: أخذنا علينا بالرصد فخرجنا ليلاً فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة.(من رواية البخاري) من القصص المشهورة في طريق رحلة الهجرة قصة أم معبد صاحبة الخيمة التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ضعف أكرم العُمري معظم الطرق والتفصيلات الواردة في القصة، سوى طريق واحد مختصر جاء في روايته ((ولما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يستخفيان, نزلا بأم معبد فقالت: والله مالنا شاه وإن شياهنا لحوامل فما بقى لنا لبن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- أحسبه- فما تلك الشاة؟ فأتي بها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة عليها ثم حلب عساً فسقاه، ثم شربوا فقال: أنت الذي يزعم قريش أنك صابئ؟ قال: إنهم ليقولون قال أشهد أن ما جئت به حق, ثم قال اتبعك؟ قال: لا حتى تسمع أنا قد ظهرنا)).

كما أن من أشهر القصص الواردة في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قصة سراقة بن مالك رضي الله عنه التي وردت بعدة طرق عند البخاري وغيره، ومن أكثرها تفصيلاً ما ورد برواية ‏عبد الرحمن بن مالك المدلجي ‏وهو ابن أخي ‏سراقة بن مالك بن جعشم‏‏.

وأضاف قائلاً: إن الإنسان ليعجب أن تأتي هذه البشارة بسواري كسرى في وقت كان الرسول صلى الله عليه وسلم مطارداً من المشركين مطلوباً منهم حياً أو ميتاً، حيث جعلت أعظم الجوائز لمن يأتي به.

ومع ذلك فهو يحدث سراقة عن فتح فارس بلاد كسرى، وأن هذا الأعرابي سيلبس سوراي كسرى التي ما كان يجرؤ الأعراب على مشاهدتها بأعينهم أو الوصول إلى المدائن عاصمة كسرى التي تحتضنها، فكيف براعي الإبل هذا يلبسها. وقد قابل سراقة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من حنين والطائف في الجعرانة فأطلعه على الكتاب، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : اليوم يوم بر ووفاء أدنُ فدنا من الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم(رواه البيهقي)

وقد حدث بالفعل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فكانت معجزة ضمن عدد من المعجزات النبوية. ففي خلافة عمر رضي الله عنه فتحت المدائن وأتي بالغنائم وفيها سوارا كسرى وتاجه وبساطه وجواهره الغالية.

ويتذكر عمر رضي الله عنه الوعد النبوي ويستدعي سراقة بن مالك وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلبسه سواري كسرى، ويقول له قل: ((الله أكبر الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز والبسهما سراقة بن جعشم أعرابياً من بني مدلج)).

ورفع بها عمر صوته، ثم أُركب سراقة وطيف به أسواق المدينة والناس حوله، وهو يكبر ويردد قول عمر، حتى شهد أهل المدينة تلك المعجزة تتحقق بعد قرابة خمسة عشر عاماً من وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسراقة.

وأضاف الدكتور العُمري قائلا ً: ومن الأحداث الأخرى في الطريق إلى المدينة أن ركباً من المسلمين كانوا في طريقهم من الشام ومعهم الزبير بن العوام رضي الله عنه لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسا الزبير رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاً. (رواه البخاري)

ومن المعروف أن الزبير بن العوام متزوج من أسماء بنت أبي بكر. وهو ابن لصفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أسلم مبكراً.

كما ورد أن رسول الله مر صلى الله عليه وسلم بإبل لرجل أسلمي بالجحفة وفيها غلام راعٍ فقال لمن هذه؟ قال الغلام: لرجل من أسلم, فالتفت إلى أبي بكر وقال: ((سلمت إن شاء الله))، ثم قال له: ما اسمك قال: مسعود, فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وقال: ((سعُدت إن شاء الله)). وكان صلى الله عليه وسلم يحب التفاؤل.

واختتم الدكتور العُمري حديثه قائلاً: قد اشتغل عدد من الباحثين المسلمين في الماضي والحاضر على طريق الهجرة النبوية وأخرجوا لنا أبحاثاُ وخرائط متعددة لهذا الطريق والأماكن التي وردت في الروايات المختلفة مرور الرسول صلى الله عليه وسلم بها وحاولوا تحديدها حسب إمكانات عصرهم، ولعل من أفضل ما وقفت عليه عن طريق الهجرة، ما أخرجه الدكتور عبدالله بن حسين القاضي أستاذ الهندسة الحضرية ووكيل جامعة الدمام، في كتابه المصور عن الهجرة النبوية، وما تبعه من سلسلة كتب وخرائط عن طريق الهجرة، مدعمة بأحدث الصور والاحداثيات نتيجة رحلات ميدانية لهذا الطريق برفقة خبراء ومصورين استمرت لعدة أسابيع وفقه الله.