Tuesday 03/12/2013 Issue 15041 الثلاثاء 29 محرم 1435 العدد
03-12-2013

«القسمة الضيزى»

تسارعت الأحداث في منطقتنا بشكل أقل ما يقال عنه أنه غير متوقع. وتحولت إيران، ونظامها المتطرف من معسكر الشر فجأة إلى معسكر الود، وبدأ الأمر وكأنما المواقف الغربية منظومة في خيط واحد، تتحرك دولة فجأة فتتبعها الدول الأخرى. تصرح الدول في الليل وتشدد على تصريحاتها

فيمحو نهارها كلام ليلها وتتبدل فجأة مواقفها. واتضح أن الدبلوماسية التقليدية التي كانت التصريحات تصدر عن مواقف تلزم أصحابها شيئا من الماضي. تدلي الدول بتصريحات شديدة اللهجة وتتخذ مقابلها مواقف مائعة في الاتجاه الآخر.

وتكاثرت الدول على إيران فما تدري إيران من تجيب. عجيب أمر السياسة فالأساطيل الضخمة التي تحركت، وظن جميع محبي السلام أن جاءت لإنقاذ شعب تفتك به أسلحة الدمار الشامل بما في ذلك الأسلحة الكيماوية، التي سبق وضعت مقابلها خطوطا دولية حمراء، فاتضح أنها حركت لأهداف أخرى لامتصاص غضب الشعوب، ولمقايضة المواقف، وللتعمية على محادثات سرية تباع فيها المواقف، وتبدل فيها الصداقات والتحالفات.

وهنا لابد من الاعتراف بأن الثقة التامة العمياء، والولاء التام في السراء والضراء ليست ولم تكن يوما من مفردات السياسة الحديثة. حقيقة مؤلمة، أتت في وقت قد نخاله غير مناسب، ولكن ربما ضارة نافعة، وربما كرهنا شيئاً وهو خير لنا، لأن في ذلك تذكرة لنا أننا ربما أفرطنا في الاعتماد على أصدقائنا، وكان الأولى أن نعتمد على أنفسنا فقط، ونبني حساباتنا على ذلك فقط، كما تفعل كثير من الدول، وننظر لمواقف الآخرين المتفقة معنا على أنها عون مرحب به، ولكنه ليست ما نعتمد كليا عليه.

مواقف المملكة كانت مشرفة، وفيها لعبت دور المدافع الأول عن المصالح العربية وكذلك دور حماية مصالح الطائفة السنية التي تتعرض لهجوم طائفي مستميت تقوده إيران. ولا غرو في القول إن إيران نجحت في تجييش الطائفة الشيعية ورص صفوفها عبر ما يسمى بولاية الفقيه التي تحولت من مرجع ديني إلى قيادة سياسية. والحق أنه، مع الاحترام الكامل للطائفة الشيعية، وهي بلا شك طائفة إسلامية كبيرة، الكثير منا لا يعرف كيف تحولت ولاية الفقيه إلى مفهوم متوارث في الطائفة الشيعية الإيرانية فقط، وليس مداولة في فقهاء من آل البيت على سبيل المثال من شعوب أخرى؟ فسقوط الشاة هو الذي سمح بظهور ولي فقيه سياسي، أي أن ولاية الفقيه جاءت لتملأ فراغ سياسي قيادي خلفه خروج الشاة، ولعب الغرب دوراً مشابهاً لما يلعبه اليوم في تنصيب الخميني مكان الشاة حتى لا تأتي حكومة لإيران ذات طابع اشتراكي، أو ولاء إقليمي، ومن يومها لم تهدأ الجبهة الشرقية للعرب، وتمكنت إسرائيل من فعل كل ما تريده في القدس والأراضي المحتلة. فولادة الولي الفقيه تمت في الغرب، وتنصيبه كان في إيران. حالة كلاسيكية لتسييس الدين.

ما لا يفقهه كثير من الشيعة العرب هو أن تبني إيران للتشيع كقضية، واستئثارها بولاية الفقية لا يعني أن تنظر للشيعة جميعاً بعين المساواة، ولا للشيعة العرب بالنظرة ذاتها التي تنظر بها للشيعة الفرس، فهم ينفذون الأدوار التي تناط بهم فقط ولكنهم لا يقررونها بدءا من ميشليات العراق وانتهاء بأحزاب الله. وقد عبر “إريك رولو”، الصحفي الفرنسي المقرب كثيراً من الخميني، والذي رافق الخميني في فرنسا وفي عودته على طائرة فرنسية خاصة، عبر عن دهشته من رفض الخميني الكلام بالعربية، وبتمسكه القوى بالقومية الفارسية رغم إدعائه بعالمية الإسلام. فالتشيع بالنسبة للشيعة العرب انتماء ديني مقدس، وبالنسبة لإيران سياسة وتوسع ونفوذ في مناطق تقطنها شعوب شيعية عربية ثقافتها محدودة ومن السهل استغلالها. وطبعا لا نستثني بعض الانتهازين العرب من الطائفة الشيعية، من أمثال حسن نصر الله، وحكومة العراق الحالية الذين يشاركون إيران استغلالها للعاطفة الدينية للشعوب العربية، و هنا نذكر أيضا بعض قادة ما يسمى بالمعارضة البحرينية، فهؤلاء ما زالوا يعيشون وهم دعم إيران لهم على أنه دعم مذهبي فقط، كما كان بعض الشيوعيين العرب يدعم إسرائيل في العالم العربي لأنهم توهموا أنها ستكون نواة لاشتراكية عربية!!

للأسف لا يوجد مرجع سني كولي الفقيه، لأن السنة ليست لديهم قضية ولاية لأنهم لا يؤمنون بغيبة مقدسة لأحد، ولا قضية تاريخية مشابهة لقضية الحسين يتوارثونها كحزن أبدي، فالشغل الشاغل للسنة هو المحافظة على ما يعتقدون أن مذهب السلف النقي. ولذا لم يكن بالإمكان تجييش السنة بشكل مذهبي موحد مشابه لما تفعله إيران بالرغم من وجود جماعات سلفية وسنية تبادل إيران عقلية الجهاد المذهبي.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو، هل ما نشاهده حولنا اليوم محض صدفة؟ أم نتيجة منطقية لتطورات سياسية موضوعية؟ أم أن هناك من يعبث بنا طائفياً بمشاركة ومباركة إيران؟ فعندما انتهت الحرب العراقية الإيرانية بانتصار معسكر تحرير الكويت، شكلت قوى المعارضة الشيعية رأس حربة الغرب في ضرب النظام العراقي و كثير منهم لم يكونوا إلا عملاء لإيران وعلى رأسهم سيء الذكر، وصاحب شهادات أسلحة الدمار الشامل المفبركة أحمد جلبي. وبعد الانتهاء من صدام سلم الأمريكان العراق لحكومة ولائها الأول لإيران وسط استغراب الجميع، واتضح السبب اليوم. ولعبت إيران وسوريا أدواراً داعمة للغرب في سبيل الخلاص من حكم صدام الذي لم يكن سنياً ولا طائفياً بل بعثيا علمانيا، فقد كان عقبة أمام المد المذهبي.

لكن الغريب في الأمر أنه عندما بدأت الثورة في سوريا، حيث حكم أقلية علوية لا تتجاوز عشرة في المئة من السكان لأغلبية سنية تتجاوز السبعين في المئة، واستخدم النظام عنفا غير مسبوق على شعب أعزل آمن، تدخلت إيران والطائفة الشيعية التي تبكي إلى اليوم دم الحسين المظلوم لسفك دماء السكان العزل المظلومين. وبينما كانت إيران، والعراق، والغرب معهما يرى أن الوضع الطبيعي في العراق هو أن تشكل الحكومة في العراق الأغلبية الشيعية، لم يروا أن الوضع الطبيعي في سوريا أن تشكل الحكومة الأغلبية السنية، أي لم يروا للسنة الحق ذاته الذي طالبوا به. وهذه بالنسبة للسنة قسمة ضيزى.

المذهبية وتسييس الدين هي ما يحاولة الغرب في منطقتنا، فالاقتتال المذهبي يخدم الغرب الانتهازي من جميع النواحي، ولم يكن بروز التحالف الغربي الإيراني إلا مسألة وقت فقط. فالغرب يريد أن يلعب بين بقية العرب وإيران اليوم ما سبق ولعبه بين إيران والعراق في السابق، صدم الأطراف ببعضها البعض والاستفادة من تسليحها وإعادة البناء فيها. وإسرائيل مستفيد دائم من أي صراع هي ليست طرف فيه في المنطقة.

أمريكا بلا شك غيرت سياساتها بشكل كامل في المنطقة، وهي كانت تخطط لذلك سراً من وقت طويل، وحشد الأساطيل في البحر الأبيض كان للتعمية على المحادثات السرية، ولذا لم تأبه إيران، ولا النظام السري لهذه الحشود. العرب، كأمة وكقومية هم الخاسر الأول من تدويل قضاياهم عبر أسلمتها، فهذا جر عليها وسيجر عليها ويلات كثيرة، فأسلمة القضايا العربية هو ما جعل إيران لاعبا شرعيا فيها بحجة مذهبية. فإيران تتوسع قوميا عبر المذهب، ونحن نتقلص عربيا عبر تدويل هويتنا دينيا. وبدون نبذ الطائفية كليا والتخلي عن القراءات الدينية للصراعات الإقليمية من المرجع أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه لاسيما في ظل مشاغلة بعض التنظيمات الإسلامية المتطرفة للأنظمة العربية متيحة لإيران الاستمرار في توسعها، والغرب يراهن عليها اليوم لاعتقاده أن معسكرها أكثر انضباطا تحت قيادتها الموحدة.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب