Saturday 28/12/2013 Issue 15066 السبت 25 صفر 1435 العدد
28-12-2013

فَقْرُ النَّظَرِيةِ الجَمَاليَّة:

قال أبوعبدالرحمن: لا أَمَلُّ بين الفَيْنة والفينة من التعريج بِجرعاتٍ عن (النظرية الجمالية)؛ لأنها عند الخواجات ومثقَّفي العرب بحوث فلسفية جامدة غامضة؛ بسبب أنهم جَرَّدوا الإحساس الجمالي للمعرفة والعلم، وأهملوا الجانب الغريزي..

ولا ريب أن (الإحساس الجمالي) معرفة وعلم؛ وهذا حق، ولكنَّ ذلك لا يظهر إلا بعد إيقاعٍ لذيذ يستجلي ما هو جميل مُمْتع من مناظر طبيعية، ومن نماذج أدبية، ثم يكون بعد ذلك (الحُكمُ الجمالي) المُنتج علماً ومعرفة.. وعُنيتُ أيضاً بالتعريج على النظرية الجمالية بجرعاتٍ أكثرها تجريبيَّة؛ لأن تأصيل هذه النظرية وإن لم يكن في بلادي السعودية معدوماً فهو انطباعات عاجلة يُستمَدُّ أكثرها مِن مأثورنا البلاغي.. وحينما يحار الإنسان بين التذاذه بمنظر طبيعي أو فني أو نصٍّ فني، أو سماع فنِّي وبين عجزه عن تحديد الماهية التي أثارت الجمال في النفس من ذلك الموضوع الخارجي، ويعجز أن يستخرج من الموضوع ماهيةً تجعل الإحساس علماً بتحديد لغوي واضح: فلا يعني أن الإحساس الجمالي لا يُنتج علماً؛ وإنما نَتحَسَّسُ من اللذة الجُوانية في النفس، ومن تحليل الموضوع الخارجي ظواهرَ ستكون أمامنا بارزةً جداً من التجارِبِ الطويلة في تذوُّقنا الفنونَ الجميلةَ؛ مما نَعُدُّه جمالاً؛ فهو ابتداءً علاقةٌ بين الوِجْدان في النفس وبين الموجود الخارجي الذي نُسمِّيه موضوعاً.. ومثال ذلك هذا المنظر الطبيعي عن مُنْحَدَر من مُرتفع يسقط منه ماء بشدة وعنف؛ فيتناثر منه الرذاذ على جميع الأنحاء مختلطاً بأشعة الشمس؛ ومن ثم تبدو ألوان طيف متناسقة.. ويحتضن المنحدرَ إطارٌ أخضرُ من غابات أشجار باسقة، وأرض سندسية انتشرت فوق أديمها قطعان الماشية، وتخلَّلَتْها زهور مختلفة الألوان؛ فهذا منظر خلَّاب عند أكثر عباد الله من عامي ومن مُثقَّف عالي الثقافة.. وقد يوجد قِلَّة من الناس تفتقد الإحساس بهذا الجمال، ولكنَّ ذلك ضمن حالةٍ حَجَبَتْ الإحساس بالجمال؛ ذلك أن النظرية الجمالية أمشاج تتكوَّن من الموضوع بمواصفاته كالمنظر الطبيعي الذي أسلفته، ومن الشخص الذي وُجِد عنده الإحساس الجمالي وَفْق درجات ثقافته وأخلاقه وتديُّنه، ومن العلاقة بين الشخص ذي الإحساس وبين الموضوع في حالات يُسْتَلَب فيها الإحساس وتُحجب الرؤية، أو في حالات يتضاعَف فيها الإحساس بالجمال لعلاقة حميمة بين ما هو جميل في نفسه؛ لأن ما ازداد جماله إنما كان ازدياده بحالة جمالية أخرى يعيشها ذو الإحساس الجمالي، وتلك الحالة من أنواع التداعيات النفسية والمعنوية والفكرية.. خذ مثال ذلك من حال خواجي يجلس مع أليفته لسماع موسيقى أو لحن؛ فيطير فرحاً ويقول: (يا حبيبتي: إنهم يعزفون أغنيتنا)؛ فأيهما أثار استابته لذلك الفن: أهو قيمة فنية داخل اللحن نفسه، أو هو قيمة خارجة عن اللحن آتية من خبرة سابقة؛ وإنما ارتبطت باللحن؛ لأنه أثار الانتباه إليها بشكل ما، أو هو قيمة اللحن وروعة الذكرى معاً، أو قيمة اللحن الفنية ومتعة الحالة التي يعيشها مع قرينته حضوراً وليس ذِكْرى سابقه، وهل من شرط القيمة الفنية أن تُسْتخلص بعيداً عن علاقتها بالأشياء الأخرى؟!.

قال أبوعبدالرحمن: أما استلابُ الإحساس بمرضٍ أو هموم أو شيئ استعجل السير إليه لأهمِّيته: فكل ذلك لا ينفي الجمال من الجميل الذي يَخْلِبُ أكثرُ عباد الله كالمنظر الطبيعي الذي أسلفته؛ وإنما يعني تعطيلَ الإحساس بموانعَ وحواجب كالأعمى المحجوب عن مُدرَكات البصر؛ ولهذا بيَّن أبوالعلاء في رائيَّته استصغارَ البدر في رؤية العين وهو كوكب كبير جداً، وحكم بأن الآفة في إدراك العين لكوكب بعيد جداً برؤية مجرَّدة محدودة القُوى.. ومن العلاقات أن يكون في عباد الله مَن هو جادٌّ في حياته لا يلتذُّ بغير ممارسةِ حرفته مهارةً، أو الغوص في حرفته الفكرية والعلمية، وليس عنده حُكْمٌ ينفي به جماليات الفنون، وليس عنده طبعُ الفنان؛ فهذا حكمه أنه لا علاقة له بما هو جميل أو جمال، والحُكْم فيه أنه مستبدِلٌ بوجدانه من حرفته ومعارفه جمالاً فنيَّاً عند عباد الله بجمالٍ من وحي جِبِلَّته البشرية الجادَّة.. وأما المستغرقُ مع ليلاه في سماع الموسيقى -وما أكثر هذا التفاعل مع الطبيعة في مناظرها وأصواتها عند الرومانسيين الذين جعلوا من الطبيعة صومعةً لتوحُّدهم مع أليفاتهم، وهذا جمال ينقلب إلى قُبح حينما يقعد بهم عن عزائم الأمور؛ لأن مِن مُقَوِّمات الجمال الجلال والكمال-: فهذا غير محجوب عن الإحساس الجمالي لسماع الموسيقى حسب درجته من التذوُّق، بل هو مُحِسُّ به كما هو في وِجدانه، ولكنَّ الموقفَ أضاف إليه جمالاً آخر، فتضاعف إحساسُه الجمالي؛ لأن الجمالَ الموسيقيَّ لم يقتصر على وجوده كما هو في الصوتِ، بل ازداد بتعبيره المُطابِق حالته اللذيذة إما في الذاكرة وإما في الآن الحاضر.. على أن في هذا الازدياد محاذيرَ مُرْتقَبة؛ فربما كانت الحالةُ اللذيذة لذي الإحساس الجمالي بشيئ في الخارج سَيِّئةَ الأثر في سلوكه؛ فيتضخَّم عنده الوَجْد؛ فيكون في عُزْلة تُعَطِّل فاعليته في الحياة، أو في رِقَّةٍ مفرِطة تُعطِّل جمالَ الرجولة.. وربما كانت الكلمة هُياماً صوفياً غير معقول؛ فَيَنصَهِر في تقوى ساذَجة غيرِ ما شرعه الله له، وربما غرَّر بالناقد فجعل انصهارَ المُصطلِم في انفعالاته نموذجاً أعلى للإحساس الجمالي؛ فيكون النقد الجمالي تأصيلاً دَعَوياً للرخاوة وتعطيل العزائم.. ولا ريب أن ذا الحسِّ الجمالي المرهف أنفع لنفسه وأُمَّته من عالم جادٍّ ليس عنده طبع الفنان، ولكن بشرط أن يكون ذلك الجمال مباحاً شرعياً ليس هياماً بجمال أجنبية يتعذَّر أنكون شريكةَ حياتِه، وليس استحساناً للحبِّ الشاذ المُحَرَّم شرعاً أعنفَ تحريم، وللأسف انتشر هذا الداء في أدب تراثنا في عصور الانحطاط الأدبي والخُلُقي.. وبشرط أن لا يكون معانقةً لأصوات لم يأذن بها الله تستهلك نشاطه، فلا يحمل شيئاً من هموم الآخرة؛ لأن الإيمان بالغيب ببراهينه وأشواقه نعمة تهب القلب لذةً وراحة.. وقلت: (ذا الحس الجمالي المرهف أنفعُ لنفسه وأُمَّته)؛ لأنه في إحساسه بالجمال المباح مع تقوى القلب سيكون أقدرَ على استيعاب دقائق الفكر، وسيكون أعلمَ بدلالة النصوص الآتية بدلالةٍ كُلِّية بصورٍ بلاغية أو براهينَ فكرية مُركَّبة.. وسيكون أنفع للناس بإيقاعه اللذيذ، وبمتانة ودقة تفكيره في آن واحد؛ فيكون أجلب لهم إلى الحق والخير، ويكون أدرى بمنابع القبح والبرودة - والعامة تسمي البرودة بين الجمال والقبح (ماصِلاً)، إلا أن الأصل عندهم في المذاق؛ ولهذا كان من أمثالهم: (أَمْصَل من فَصِّ العَنْصَل)، ومثل ذلك الوصف بالخانس وهو الطعام بلا مِلْح، وأدل على البرودة عندهم كلمة السماجة).. ومِن أوجه القبح ثم السماجة ما غصصتُ به من مَنْح الخيال قدسيةً خاصة يُستباح بها تحطيم الواقع، والبرم من وحدته، والمزج بين عناصر متنافرة ناشزة، والاضطراب والتشويه، والغموض والإلغاز، وتحطيم العاطفة الجمالية، وتدمير نظام الواقع والمألوف والمنطق، ومقاطعة التراث نهائياً (مع أن كل ما هو قبلُ أحدثِ الحديث بلحظة واحدة فهو تراث)، وتوليد الأحلام بالمخدرات والعقاقير أو السباحة في بركة الشيطان.. وهكذا وجدنا في أقوال (نوفاليس) و(بودلير) و(رامبو) و(مالارميه) و(بول فاليري) وغيرهم.. وكل ذلك مصادر حية لمؤصلي الحداثة من النقاد العرب غير الملتزمين.. والنظرية الجمالية بعد تأصيل الإحساس بها تُعَدُّ معرفة وعلماً مثل الفلسفة في عمومها إذا كانت أمينة مع المعايير (القِيَم)؛ فإنها تأتي لفحص اعتقاداتنا؛ لتزيِّف كلَّ اعتقادٍ لا برهان عليه، وكثير من الاعتقادات ينطلق منها كثير من الناس دون برهان مستثمَرٍ من تفكيرهم سواء أكان ذلك الاعتقاد قابلاً للبرهان أم لا برهان له؛ وإنما يُكَوِّنون كثيراً من اعتقاداتهم من سلطة خارجة عن تفكيرهم أو ما يقتضيه القانون الفكري كالتلقين والإلف.. وهكذا كثير من الأحكام الاعتقادية في الفن تتألف من مفهوم عادات شائعة الاستعمال، وأفكار غير مُخْتَبرَة، وانفعالات تتخذ مظهر الأفكار.. وعلم الجمال فلسفة نقدية لاتقاداتنا الفنية، ومن شرط تحرير الأحكام النقدية في الفن من الاعتقادات اتِّخاذُ المناهج المعيارية كأن نختار الشواهد الجديدة الجميلة التي تؤيد حكماً نقدياً نأخذ به دون أن نستسلم لشواهد مكررة، وتجدُّدُ الشواهد دليل على أن قاعدة الحكم غير عائمة أو غامضة.. وهكذا اختيارُ الشواهد المضادة للحكم النقدي، وفحص إيجابيات الحكم النقدي من خلال سلبيات الشواهد الُمضادَّة، أو العكس؛ وهذا النحو من التعليل ضروري في استكمال البرهان وشرح الدعوى؛ لأنه يضيف إلى إيجابيات الحكم سلبياته.. ويلي ذلك صياغةُ دعوى الحكم بقدر كاف من الوضوح والمنهجية، ليمكن اختيارُها بالشواهد التي يصطفيها هو، وتوضيح مسوِّغ الحكم النقدي بدقة؛ لتجلية منهج الناقد؛ لأن الناقد سيظل مطالباً بالاتِّساق مع منهجه في جميع أحكامه الأخرى، وسيظل مطالباً بالتسويغ الكافي إنْ لفَّق منهجه من وجهات نظر مختلفة؛ ذلك أن المنهج العام للفكر ذو أثر كبير على أحكامه الجزئية.

قال أبوعبدالرحمن: والممارسة الجمالية تَلَقِّياً أو إبداعاً تهب بإذن الله سلوكاً ثقافياً يتميَّز به الأديب الفنان في شفافيته هيئةً ومنطقاً وتعاملاً.. ومن نماذج تلك الشفافية تعاقب اللذائذ التي تُخْلِص كلَّ سلوكه للشفافية نفسها: أنَّ معاناته الفنية على مدى عمره تتكون من عناصرَ مُتَتالية اختزنها وعيه؛ فيجد مثلاً عند ابن أبي ربيعة ما يرقِّق طبعه، وعند ابن الملوح ما يهذب أشواقه، وعند ابن الأحنف ما يعوِّده على الوفاء، وعند أبي الطيب ما يثير كبرياءه ونخوته، وعند لامرتين ما يُحلِّق بعواطفه.. وكل تلك اللذائذ تكون طبيعة جبلية إلى آخر لحظة من عمره وإن شاخت العاطفة والخيال، أو ضعف الإدراك؛ لأن تلك اللذائذ إرث من مراحل العمر تكاملت به شخصيته الشفافة.. وإلى لقاء، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

مقالات أخرى للكاتب