Saturday 18/01/2014 Issue 15087 السبت 17 ربيع الأول 1435 العدد
18-01-2014

عن الحوار المنشود ... نظرة أفريقية

يعتبر عنصر التلاقي والتفاهم بين الحضارات والثقافات أمراً طبيعياً في مسيرة الفكر الحضاري الإنساني. ويشكل التفاهم والتعايش أبرز المبادئ التي تحكمت في التقاء الحضارات وتلاقحها عبر التاريخ،

وإذا حدث أن كانت هناك صدامات بين الحضارات، فإنما كان ذلك أمرا شاذا يرجع إلى اعتبارات مصلحية أملتها ظروف شخصية أو قومية أو إثنية، أثرت بشكل سلبي على مبدأ التعارف الإنساني بين الشعوب والحضارات. وإذا كانت الدعوة إلى حوار الحضارات إحدى أبرز خصائص النصف الثاني من القرن العشرين بما شهده من مبادرات ودعوات، سواء من الجانب الإسلامي أو من الجانب الغربي - الكنسي، فإن العقود الأولى من القرن الذي استقبلناه يؤمل أن تشهد ترجمة حقيقية على أرض الواقع لمختلف النظريات المبشِّرة بتأسيس جسور وقواعد مشتركة للتعاون والتعايش بين مختلف الحضارات والثقافات، وهو ما سوف يشكل - لا محالة - تحديا بارزا لدعاة ومروجي مختلف النظريات الموغلة في التشاؤم حول صدام الحضارات والصراع فيما بينها، وترشيح الحضارة الإسلامية لأن تكون محورا رئيسيا في ذلك الصراع المزعوم...

في هذا الجانب يعتبر امادو لامين سال (Amadou Lamine Sall) واحدا من كبار الشعراء المسلمين الفرنكفونيين من أصل سنغالي، حاصل على عدة جوائز دولية وأتشرف بأخوته وزمالته في مجالات تجمعنا وعلى رأسها التأصيل والتفعيل للحوار بين الحضارات والثقافات كضمان لتحالف دولي أكثر عدلا... كان مصاحبا ومرافقا لعقود للرئيس الراحل سانغور وله حس أدبي قل نظيره وتترجم أعماله إلى عدة لغات العالم...دائما ما يقول لي ويكتب أنه يظل يتذكر كلمات سنغور (Senghor) أثناء جولته في جزيرة كورفو اليونانية: «عندما يلتقي شعبان، فغالبا ما يتصارعان ودائما ما يختلطان ويتلاقحان». ولعل هذا التلاقي والاختلاط هما الكلمتان الجوهريتان، إذ يتعلق الأمر حتما بالحوار واختلاط الحضارات والثقافات تفاديا للتقوقع واجتناب الغرور والإقصاء والحروب. ويذكرنا أشهر علماء علم الأجناس البشرية أن أولى الحضارات الإنسانية وأهمها على الإطلاق قد ظهرت بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث تم التقاء أهم ثلاثة أجناس بشرية تجانست وتمازجت: الجنس الأسود والأبيض والأصفر. ونعلم أيضا أنه على طول «المسالك البرية الكبرى التي رسمت عبر آلاف السنين وبما سيعرف فيما بعد ذلك بطريق الحرير. ذلكم المسلك العظيم يمر عبر جبال الهمالايا شمالا للوصول إلى بلاد تركيا، ثم يمر بعد ذلك على طول البحر الأبيض المتوسط». كما لعبت الطرق البحرية أيضا الدور نفسه وباتت لها الأهمية عينها. وهكذا يعود حوار الثقافات وتلاقي الحضارات إلى آلاف السنين حسب شاعرنا السنغالي المسلم. وبالتالي تمت صياغة تاريخ الإنسانية... فمعجزة الحضارة الإغريقية استمدت قوتها من الحضارة المصرية القديمة والهندية وحضارة بلاد فارس وجميع الحضارات المتوسطية. والنهضة الأوروبية، لم يكن لها أن ترى النور لولا الامتداد العربي والحملات التي شنها المغول وما حملت معها من كنوز الحضارة الصينية....

وغالبا ما يعود الشاعر والمكر سال إلى أستاذه الرئيس السنغالي السابق سنغور عندما ينقل عنه مثلا: منذ خمسين سنة خلت، وخلال الثلاثينيات، كانوا يدخلوننا إلى مركز علم السلالات والأصول البشرية في باريس لنتأمل الكرة الأرضية، والعالم ببلدانه وشعوبه، لنتفحص معاني التاريخ والثقافة... وتمر أمام مخيلتنا عظمة مصر القديمة والحضارة السومرية والإغريق وروما وقرطاج والحضارة العربية وإيران والهند وجنوب الصين واليابان، وما إلى ذلك دون أن ننسى حضارة الأزتيك والمايا... نشأت هذه الحضارات، كما هو معلوم، بعد هجرات الزنوج العظيمة نحو التلال الخصبة في الشرق الأدنى والشرق الأوسط وكذلك هجرات الألبو أوروبيين - ولن أقول الهندوأوروبيين - والساميين المنحدرين من الشمال، وأيضا أبعد من ذلك هجرات المغول.... فمستقبل الدول والشعوب يندرج لا محالة في الحوار والاحترام المتبادلين.....

ونجد اليوم على الصعيد العالمي أقطابا ثقافية واقتصادية وجغرافية تعتبر بمثابة مختبرات لجس النبض وتحقيق التوازن في موضوع الهوية والوازع الانتمائي للشعوب.

هذا كلام كله جميل وصحيح... ولكن للأسف فإنه في بعض الأحيان تروج مصطلحات «حوار الحضارات» و»لقاء الحضارات» و»وحدة الحضارات» تكون من إنضاج الفكر الغربي الذي يفرض كل مرة وحين من الأفكار والشعارات ما يناسب وضعه الاستراتيجي والأيديولوجي في إطار الحضارة الغربية التي تجد نفسها دوما في تنافس وعداوة مع حضارات أخرى، شرقية بالخصوص وإسلامية على وجه أخص.

وإذا كان الجميع ينساق بوعي ومن دون وعي وراء مصطلحات الحوار والتفاهم في ثوبها الغربي، فإن مضامينها ومدلولاتها وأبعادها، وكذا ما ترمي إليه وفق ما يهدف إليه منظروها الغربيون، يكاد ينطلي على كثير من فئات الناس، فتجد أن حوار الحضارات لا يكاد يفهم إلا حسب المفهوم الغربي، وعلى أساس شروط الاستراتيجيين الغربيين أيضا، فهم الذين يدعون إلى إقامة نوع الحوار المنشود، وهم الذين يشترطون شرائطه ويضعون أسسه وأهدافه.

ولعل هذا ما جعل قضية (حوار الحضارات) وفق المنظور الغربي تتطور وتساهم في تكوين إحدى دعائم نظام العولمة ومقوماته، الذي وإن كان يبدو لنا يرمي إلى ترسيخ مرتكزات الهيمنة الغربية على الشعوب الأخرى، فإن بريقه الخادع يوهمنا بوجود نوع من التعاون والانفتاح والتقارب والحوار بين الشعوب والحضارات، خاصة إذا علمنا أن المفهوم الساذج للعولمة - والذي يروج له بشكل شائع - يعني تقريب الشقة بين أبناء الدنيا.

إننا بهذا نؤكد على أن مصطلح «الحوار بين الحضارات» يكاد يفرغ من مضمونه ومحتواه الصحيح في هذا النوع من الحيلة الغربية لأنه لا يقوم في أغلب الأحيان على أساس من التعارف المسبق الكفيل بانفتاح كل طرف على الآخر، كما لا يقوم أيضا على أساس من «احترام الخصوصيات الدينية والثقافية» لكل الحضارات والشعوب، وذلك باستبعاد أي محاولة هيمنة فكرية كانت أو اقتصادية من أي جهة تريد فرض قطبية أحادية الجانب. إنه باحترام هذه الشروط يمكن فتح نوافذ التعارف بهدف تقريب الشقة بين مختلف الحضارات وجعلها ينفتح بعضها على بعض في سعي حثيث نحو تلاقح متميز وتفاهم مفيد ومثاقفة مجدية وفعالة. كل ذلك مع الاعتراف بوجود مساحات الاختلاف بين جميع الحضارات والأديان، وتمتع كل واحدة بخصوصياتها ومميزاتها مما لا يسمح بأدنى محاولات التذويب أو الانصهار. وهنا نود التنبيه إلى أن مفهوم «تعارف الحضارات» كما نرمي إليه لا يسمح بأدنى محاولات الاختراق الدينية، ولا يهدف بتاتا إلى التقاء الديانات السماوية تبعا لالتقاء الحضارات كما تدعو إلى ذلك بعض التيارات الفكرية والدينية التي تسعى إلى صهر وإذابة مقومات الديانات السماوية الثلاث في بوتقة واحدة وضمن قالب واحد يحلو لزمرة منهم إرجاعه إلى ميراث إبراهيمي واحد.

لقد قدم «غارودي» في كتابه من أجل حوار بين الحضارات طرحا ناضجا حول مفهوم الحضارات حيث وجه نقدا قاسيا لسلوك الغرب في تاريخ علاقته بالأمم والحضارات غير الغربية، إذ إنه لم يسع إلى التعرف عليها من خلال إعادة النظر إلى ذاته وإلى طبيعة علاقته بالآخر الحضاري من خارج محيطه الغربي، بل إن غارودي في كتابه لم يتردد في مطالبة الغرب بالاستفادة من التجارب الحضارية الأخرى -الإسلامية منها على وجه الخصوص- والتعلم منها والانفتاح عليها لأن طريق الحوار بين الحضارات لا يزال طويلا يحتاج إلى جهود كبيرة.

مقالات أخرى للكاتب