Monday 20/01/2014 Issue 15089 الأثنين 19 ربيع الأول 1435 العدد
20-01-2014

أسباب غياب المثقف العربي

يتعرض المثقف العربي لأقسى موجة نقد لأنه لم يكن له دور (ثقافي أو عملي) يذكر منذ اندلاع شرارة الربيع العربي وما بعده من تداعيات، على خلاف ما كان عليه دوره في تغييرات سابقة..

الناشط الإعلامي يقوم تدريجياً بدور المثقف، والمثقف بدأ يتحول إلى نشاطات أخرى خاصة الإعلامي منها. أبسط مثال وائل غنيم التكنوقراط الإنترنتي الذي أصبح رمزاً من رموز الثورة المصرية بسبب نشاطه الخدماتي بالإنترنت. وعلى العكس نلاحظ أن كاتباً مثل داوود الشريان يحل أعلى مرتبة إعلامية في برنامج خدماتي عام هو الأكثر شعبية.. والأمثلة ليست قليلة كالكاتب تركي الدخيل الذي لا يزال من أكبر نجوم مقدمي البرامج.. هناك كتاب مثقفون يتحولون الآن إلى المجال الإعلامي كمقدمي برامج كالكاتب يحيى الأمير والكاتب عبد العزيز السويد.. وحتى الروائي سعد الدوسري وإن كان مؤقتاً..

لقد بدأ يتلاشى دور المثقف المبدع الذي عهدناه، فثمة أعلام مبدعة في الثقافة والأدب بالكاد يعرفها الجيل الجديد.. خذ مثلاً الشاعر عبد الله الصيخان ومحمد جبر الحربي وأمثالهما الذين ملؤوا سماء الشعر السعودي إبداعاً، من يتذكرهم الآن؟ وخذ مثالا النقاد الكبار الذين لا يزالون ينتجون كتباً ثرية لا يكاد أحد يتصفحها كعبد الله الغذامي وسعد البازعي وسعيد السريحي.. الأول أكثر ما يعرف من نشاطه الإنترنتي ومقالاته التي تظهر بين فينة وأخرى فيما الثالث يعرف بسبب مقالاته الصحفية.. ويبدو أن المقالات الصحفية هي ما تبقى للمثقف يقدم فيها رسالته.. لذا أكثر ما يُعرف الروائيون المبدعون أمثال سعد الدوسري ويوسف المحيميد وبدرية البشر عبر من مقالاتهم.

هل تذكرون الملحق الثقافي في الصحف السعودية؟ هل تذكرون كيف كان يوماً ما من أهم ما تنتجه الصحف حتى أنه يظهر في مطبوعة خاصة ومخرجَة بشكل راق ومميز ليبدو وكأنه صحيفة قائمة لوحده تتسابق عليه الأيدي، صار الآن متوارياً لدرجة أن أغلب المثقفين لا يتصفحونه. ومثل ذلك يمكن أن يقال عن الأندية الأدبية والمؤسسات الثقافية والجامعات. ثمة محاولة للهجرة من القطاع الثقافي الإبداعي إلى الإعلامي الخدماتي حتى أن مركز الملك عبد العزيز للحوار الفكري الذي يفترض أنه بين نخب مثقفة تحول إلى حوار خدماتي في الصحة والبلديات والتوظيف والتعليم..

ما الذي تغيَّر؟ قبل الإجابة لا بد من معرفة من هو المثقف وماذا كان دوره؟ لن أخوض في مسالة تعريف المثقف، فقد كتب فيها مطولات. ولن أخوض في مقولة «نهاية المثقف» التي أيضاً طُرحت باستفاضة. إنما سأكتفي بطرح أهم مواصفات المثقف، وهي: المعرفة، الإبداع، الجراءة.. هذه هي الشروط المسبقة التي تتيح للمثقف المساهمة بدور فعَّال في المجال العام حسبما تتفق عليها أغلب الدراسات والتي ترى أن المثقف طليعة في عمله النقدي وتحليله المعرفي ونشاطه الفكري..

الآن، ثمة اتفاق عالمي على أن أدوار المثقف تغيرت مما حدا بالبعض أن أعلن نهايتها، وأنه لم يعد لمصطلح «مثقف» قيمته السابقة بل قيمة لغوية وليست اصطلاحية؛ لنعود للسؤال عن سبب هذا التغير؟ وما الذي حصل خلال العشرين سنة الماضية لتظهر أدوار أقل أهمية للمثقف؟ تطرح مجموعة من الدراسات المنهجية أن أهم ما تغير هو ظهور حالتين: العولمة الرأسمالية والإنترنت.

العولمة الرأسمالية أنتجت نظاماً اجتماعياً يقوم على السلعة التي لم تعد تتطلب العمل التثقيفي والتنويري (والثوري) التي كان يؤديها المثقف. كذلك فالمؤسسات الرسمية والخاصة تتوجه بحدة نحو الفائدة المباشرة مما أدى إلى المبالغة في الاحترافية المهنية وهيمنة دور التكنوقراطي صاحب التخصص الدقيق والرؤية الضيقة ليحل محل المثقف العابر للتخصصات وصاحب الرؤية الواسعة.

ثمة سياق عولمي جارف قائم على مبدأ الربحية بالمعني الاقتصادي الضيق.. وهو مبدأ طبيعي في كل الأحوال، لكنه يحول كل نشاط إنساني وكل منتج ثقافي معنوي إلى بضاعة مادية عبر الإعلان التجاري. هذا المبدأ يتطلب أن تكون شعبوياً لكي تربح، لأن الشعبوية ستجلب الإعلان التجاري الممول للعمل الثقافي الذي سيضمر بلا تمويل الشركات الرأسمالية. هنا يتم تسليع العلم والفكر كبضاعة للسوق، فيما يحتاج المثقف أن يعيش حسب رغبة هذا السوق، حتى يتحول المثقف نفسه إلى بضاعة إعلانية. هنا استعمرت الثقافة الجماهيرية أشكال التعبير السابقة وأنتجت وسائل مبتكرة لغاياتها؛ ورسائلها التي يبدو أنها فعالة، مما أدى إلى تفكيك مفهوم المثقف المستقل كصاحب رسالة ومفكر أو فنان مبدع، كما تستنتج آخر الدراسات عن مستقبل المثقفين (ماريا بيريز).

الإنترنت وانفجار المعلومات (المعلوماتية) وثورة الإعلام التكنولوجية كلها تدعم هذا التوجه الجديد. صار الإنترنت أحد أهم المؤثرات في الثورات العربية التي أسقطت أنظمتها، وحلت مواقع التواصل الاجتماعي والدردشة في الإنترنت محل الإنتاج الفكري العميق والنشاطات الثقافية المبدعة. ولم يتراجع فقط دور المثقف الذي حل محله الناشط تدريجياً، بل أيضاً تراجع دور المرجع الديني (عالم الدين والفقيه) وحل محله الداعية الناشط بالإنترنت صاحب التعليقات المثيرة..

ظل المثقف طوال القرن العشرين يمثل فئة النخبة المفكرة ويمثل تطلعات الشعوب نحو الأفضل، لكن هذا التمثيل كان يتم عبر مؤسسات رسمية أو مدنية أو شعبية من خلال الجدارة وجودة المنتج الثقافي. الآن مع ظهور الإنترنت صار التصويت الشعبي مباشراً بلا وسيط وأصبحت المهارة في كسب الشعبية أقوى تأثيراً من جودة المنتج الثقافي.. وأصبحت القدرة على جذب الإعلان التجاري أفضل دعماً لإيصال الرسالة..

أين ذهب المثقف؟ هناك من لا يزال على ذات الوظيفة القديمة فهي لم تنته بعد.. مثل الجامعة والنادي الأدبي والمؤسسة الثقافية ومراكز البحث وتأليف الكتب التي بالكاد تُقرأ! لكن القطاع الأكبر من المثقفين ذهب إلى نشاطات أخرى.. هناك المثقف الذي تحول إلى تكنوقراط مهموم بتخصصه الضيق؛ وهناك الذي انتقل إلى معبر عن رغبات السلطة؛ وثمة قطاع كبير تحول إلى تلبية شروط الشعبوية (الإعلان التجاري) والبحث عن النجومية، وتلك ظاهرة عالمية آخذة في التشكل وأصبح يطلق عليها «مثقفي الإعلام» (Media Intellectuals). ذلك يعني أن سلطة المثقفين أصبحت غير مستقرة ومؤقتة، وبالتالي فقدان الطابع الاستثنائي للمثقف الذي صار غالباً يمثل دور شبيه بالنجوم المشاهير في مجال الترفيه لأن الإعلام نفسه أصبح ترفيهياً بالدرجة الأولى.

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب