Tuesday 28/01/2014 Issue 15097 الثلاثاء 27 ربيع الأول 1435 العدد
28-01-2014

لَوْ يُعْطَى الناسُ بِدَعْواهُم لوقَعَتِ الواقِعَةُ..!

في الحديث الحسن، الذي رواه البيهقي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:- [لو يُعْطَى الناسُ بِدَعْواهم لادَّعى رِجَالٌ أموالَ قومٍ، ودماءَهم. ولكن البينةَ على المدَّعِي، واليمينَ على من أنْكر].

تداعت تلك القواعد الأصولية الصارمة، التي قَدَحَها قول من لا ينطق عن الهوى، على ذاكرتي، وأنا أسمع، وأرى أقوماً يطلقون الكلام على عواهنه، لا يلقون لما يقولون بالاً. مع أنّ لغوهم يوغر الصدور، ويُصَدِّع وحدةَ الأمة الفكرية، ويثير الأعداء المتربصين، ويمكنهم من وثائق إثبات، يأتيهم بها من لم يزودوا.

وإذا كانت الكلمة التي يقولها الإنسان في سخط الله، لا يلقي لها بالاً، تهوي بصاحبها سبعين خَرِيفاً في النار، فإنّ هذا المستخف، قد يلقي الكلمة في حق وطنه، أو مواطنيه، لا يقدرها حق قدرها، تلقي بمثمنات أمته في الدرك الأسفل من الفتن. ومن تعقّب الإثارات الإعلامية، عبر مجمل الوسائل، والوسائط الإعلامية، لا تعوزه الشواهد.

وكم أتلقى من المناشدات، والتحريضات، للتصدي لهذا الصنف المستخف، أو المتقوّل على الدين بعض الأقاويل. وفي كل مساءلة أقول: بَعْد.. بَعْد. ذلك أنّ العاقل يختار خُصُومه، ويُحدد الوقت، والمكان المناسبين للمنازلة. إذ ربما يكون المجازفون في الاتهام، والتصنيف، والاستعداء، أو الواقعون في نواقض الإسلام، لا يملكون مثمنات يخافون عليها، ولا يتوفرون على معارف يمتحون منها، ولا تشكل الهزيمة، ولا الانتصار شيئاً مهماً عندهم. فكل الذي يعنيهم استفزاز الرأي العام، ليكون لهم ولو مفحص قطاةٍ في المشاهد. وقد يكون من أولويات اهتماماتهم أن يتلاحوا مع الخصوم، ليعيشوا حضوراً فارغاً من كل معنى. ومن أراق الأحبار في أي سبيل، فعليه أن يتوقع أنّ هناك من يحلو له إراقة الدماء. [وفي البدء كانت الكلمة] ثم كان بعدها كل شيء.

لقد تابعت باستياء ما تداولته بعض الصحف المحلية، ومواقع التواصل الاجتماعي من لغط مسف، وغير مسؤول، حول تصنيف بعض المؤسسات العلمية، والثقافية، وبعض الأفراد. وما كنت مستعداً لمتابعة مثل ذلك الفيض الرخيص، لولا اتهام بعض [الأندية الأدبية] و - أنا من مؤسسيها - و[جامعة الإمام] و - أنا أحد خريجيها، وأقدم أساتذتها - و [رابطة الأدب الإسلامي] و- أنا أحد العاملين فيها - بالحِسِّ الإخواني - على حد تعبير البعض -. وهي مؤسسات تتجسّد الدولة من خلالها، ولولا مُهاتفة بعض الوَجِلين من مثل هذا الإيجاف الفارغ، و لولا ذكر اسمي في هذه السياقات، لما تنبّهت لمثل ذلك. فلقد روّضت نفسي على المرور بمثل هذا القول، وكأنه لا يعنيني، وقَوَّتْ جانبي مقولة :- [وإذا أتتك مذمتي ...]. ولا سيما أنّ مثل هذا اللغط المخل بالمصداقية، يضيع في الرغام، ولا يصح إلا الصحيح، وفي النهاية البقاء للأصلح.

ولم يكن استيائي لأنني ذُكرت بالاسم. فأنا أعرف نفسي، ولست ممن يُقْرع له بالشنان. وما أقوله، وأكتبه مطروحٌ في الطريق، يعرفه أهل الحل والعقد. وحتى لو تحقق للأفاكين - لا سمح الله - ما أرادوا، لكان ردي عليهم كردِّ سحرة فرعون على فرعون:- {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}.

المطمئن أنّ المقصودين بِالْبلاغ، والمُحَرَّضِين على المؤسسات، والأفراد، لديهم من المعلومات الأدق ما يحول دون التأثر بمثل هذا الاستعداء غير المسؤول.

أسفي، واستيائي فراغ البعض لإشاعة الاتهامات، والتصنيفات. حتى لكأن مصطلح [الأَخْونة] أو [اللَّبْرلة] كمصطلح [الزندقة] في القرون الخوالي، الذي صُفِّيت بسببه شخصيات، لم تكن على شيء مما اتهمت به.

الدولة اليوم تملك مؤسسات واعية ومتخصِّصة، ترصد نبض الشارع، وتُقَوِّم الجدَّ والهزل، ولا تأخذ المقيم بالظاعن. بل قد تترك مِسَاحةً واسعة لمن زَلَّت به شُباة قلمة، أو فرط عليه لسانه، لمراجعة نفسه، وتفادي عَثْرته.

وإذ يكون من المستساغ النّيل مِمَّن جَرَّد قلمه، وأطلق لسانه للمناكفات، وتبادل الاتهامات، والتصنيفات، فإنّ من الخطيئة التعريض بمن جنح لِلسِّلم، ولم يَتَصدَّ لشخص بعينه، ولم يَسْتَعْد عالماً، ولا سلطاناً على أحد. ثم إنه ليس من مصلحة الوحدة الفكرية للأمة أن تترك لكل كاتب فوضوية القول، وتلطيخ سمعة الجانحين للسِّلْمِ والسلامة.

ومتى أمِن هذا الصّنف المستخف من الحساب الدقيق، والعقاب الرادع، أوغل في النّيل من أعراض الغافلين المصبحين غُرْثا من لحوم الغوافل.

وكم طالبنا بمحاسبة المجازفين في الاتهام والتصنيف من إسلاميين أو [ليبراليين] تمشياً مع قاعدة:- [البَيِّنة على المدعي].

والأسوأ من هذا وذاك التطاول على الذات الإلهية، وعلى الرسول الكريم، من أناس ينطقون بالشهادة، ويعرفون حدود ما أنزل الله.

وإذ نتوقع من الطوائف الضالة تداول ما يعتقدون من قدح، أو لعن، أو اتهام، أو تحريف للكلم، فإننا نستغرب ما يبدر من أبناء أهل السنّة والجماعة، من سخرية بالله، أو برسوله، أو بما هو ثابت من الدين بالضرورة، أو تفريق لكلمة الأمة. ولو أنّ كل مُتَّهِمٍ لغيره، سواءً كان الاتهام مُوجَّهاً لشخصية اعتبارية، أو حقيقية حوسب على قوله - شريطة أن يظل بريئاً حتى تثبت إدانته - لانْخَنَسَ كل بذيءٍ، أو فَتَّان.

فمن اتهم مؤسسة، أو شخصاً بشيء، طولب بالإثبات، لتتمكن المؤسسات الأَمْنِيَّةُ من مطاردة المُتَّهَم، ومساءلته. أو قمع المُفْتَرِي وعقابه. وسواء جاء الاتهام من إسلامي متشدّد، أو من [ليبرالي] متطرّف. فنحن لا نُبرِّئ أحداً، ولا نظاهر إلاّ الحق. لو فعل المسؤول مثل ذلك، لحقنت أعراض، والْتَأمت أَطْياف، ونزع ما في الصدور من غل.

ولا سيما أنّ البلاد محاصرةٌ من كل جانب، مُسْتهدفةٌ من كل ظلوم. وأعداؤها يتربصون بها الدوائر.

واتهام الأبرياء، والاستعداء عليهم، وتصنيفهم من أي مُتَحَزِّبٍ، يحتم على أجهزة الأمن تقصي الحقائق. فإن كان ما يقوله المُتَّهَمُون، أو يفعلونه مُخِلاً بأمن، أو مُصَدِّعاً لوحدةٍ ، أو مخالفاً لسياسة الدولة، فإنّ الإغماضَ في شيءٍ من ذلك مضرٌ بأمن البلاد والعباد.

وإن لم يكن كذلك فإنّ السكوت مدعاة لإغراء الجهلة بتعميق الاختلاف، وتصعيد الاحتقان، وإشاعة العداوة والبغضاء.

إنني لا أبرئ أحداً : إسلامياً، أو غير إسلامي. ولا أتهم أحداً بعينه، ولكنني أدعو إلى اتخاذ إجراءات رادعة، تصون الكرامات، وتحفظ الحقوق، وتحمي حوزة الدين، وتردع المتلاعبين بأمن البلاد، ولحمة العباد.

لقد مللنا من ذلك اللغط البذيء، وغير المسؤول، عبر وسائل الإعلام والمواقع.

إنّ من حق كل مفكر، أو سياسي أن يجند قلمه، ولسانه لإشاعة رؤيته التي لا تخل بالأمن، ولا تفارق الجماعة. وحين يختلف أحدنا مع المتداول، فإنّ عليه أن يعرف أنّ المشهد الفكري والسياسي ليس له وحده، وأنّ هناك خيارات متنوّعة، وليست متضادة، وأنّ المؤسسات المعنية تراوح بين الخيارات، للخلوص من المآزق، وليس من واجبها أن تطرق كل باب لتخبر صاحبه بما ستفعله للمصلحة العامة.

فحين لا يتفق مفكر، أو متديّن، أو سياسي - ما -، مع أي خيار فإنّ عليه أن يتلطّف في تمرير رؤيته، وألاّ يجنح إلى التخوين، أو الاتهام، فكلٌّ يؤخذ من رأيه، ويترك، إلاّ المعصوم في قوله وفعله، والمعصوم من الناس. وليس من مصلحة البلاد أن تُحْتكر الحقيقةُ إلاّ للنص الشرعي القطعي الدلالة والثبوت، وكيف تُقْتَرف خطيئة احتكار الحقيقة، وباب الاجتهاد مفتوح، ومن ادعى الإجماع فقد جازف. ذلك على مستوى الدين، فكيف بما سواه من مستويات.

لقد مللت من القول :- إنّ بلادنا مهوى أفئدة العالم الإسلامي، ومن واجب كتّاب الرأي فيها حفظ التوازن، والجنوح إلى الحوار الحضاري، البعيد عن التشنجات، وتمكين كل الأطراف من ممارسة حقوقهم، شريطة إلاّ تنعكس أي ممارسة على سيادتنا وسعادتنا.

أقول قولي هذا، وأتمنى من كلِّ الذين اتهموني، أو اتهموا أي مؤسسة أنتمي إليها، أو أتعاطف معها مواجهتي بأيّ انتماء مخل بالمعتقد السلفي، أو بالسمع والطاعة لولي الأمر، سواء في القول، أو في الفعل. وحين لا يفعلون، فإنني أناشد المسؤول عن حفظ ضروراتي الخمس، أن يطالبهم بالبيِّنة، فذلك أدعى لسلامة الصدور، والأمن في الدور. والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. وإن لم يتم شيء من هذا، أو ذاك، فموعدنا جميعاً { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ }، ويُحَصَّل ما في الصدور، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. و أتمنى دائماً أن أكون عَبْدَ الله المظلوم، لا عبد الله الظالم، وعزائي قول الباري :- {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب