Tuesday 04/02/2014 Issue 15104 الثلاثاء 04 ربيع الثاني 1435 العدد
04-02-2014

رحم الله المحمدين ..!

في الهزيع الأخير من الليل، وبين تلال الرمال في عمق المفازات، كُنْتُ في رحلة بَرِّيَّةٍ مع لفيف من الإخوة، والأبناء، والأحفاد. وفيما أنا كذلك، سمعت هاتفاً، يكبر الله، ويشهد بوحدانيته، فألقيت السمع، لأستبين الأمر، فإذا هو مؤذنٌ لصلاة الفجر.

قلت في نفسي:- أيُّ نعمة تلك التي مَنَّ الله بها علينا، وماكان لعاقل أن يمن على المبلغ بإسلامه، بل الله يمن على من هداه للإيمان. وما أن انقطع الصوت في تلك المفازة، حتى جلجل صوت آخر، يُثَوِّبُ للصلاة.

تلك حال الصحراء في وطني، فكيف بالمدن، بمساجدها المتقاربة، ومآذنها الشاهقة، ومكبرات الصوت المدوية.

لقد أحسست بالأمان، وتذكرت وَعْد الله:- {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّه}، والأمانان يتجليان في قوله تعالى:- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} والصلاة: تسبيح، واستغفار، ودعاء، وتضرع.

وهل بعد هذا من أمان؟.

كما أن اقتفاء أثر الرسول، كما أمر، يجعله صلى الله عليه وسلم، وكأنه فينا.

لقد تعرضت دولٌ إسلامية لفتن عمياء. أريقت فيها الدماء، وانتهكت الأعراض، وحل فيها الجوع، والخوف، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات. ولو عَرَفَ الخَلْقُ خالقهم، وقَدَروه حق قدره، لما أصابهم مانسمع، ونرى.

وأنا هنا لا أتَقَوَّل على الله، ولا أتألى عليه، فلقد يكون ما أصاب مَنْ حولنا ابتلاءً، وامتحاناً: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}.

فالكوارث الطبيعية من فيضانات، وزلازل، وبراكين، لاتكون بالضرورة عقاباً للكفرة على كفرهم، ولا للمذنبين على ذنبهم، وبخاصة حين يكون أولئك مُصْلحِين. وليس من حق أحد أن يقطع بشيء من ذلك، فَمُسَبِّبُ الأسباب هو وحده الذي يعلم الحقيقة. وفي الحديث: [َمَنْ هذا المتألي علي؟].

ونقول مثل ذلك في الأمن، والرخاء، والاستقرار، والصحة التي تغمر بعض الديار. فلقد يكون الإنعام ثواباً، وتفضلاً، وقد يكون استدراجاً، وإملاءً. فالمسلم لايقطع بأن العذاب، أو الإنعام عقابٌ، أو ابتلاءٌ، أو جزاء، ولكن الامتثال لأمر الله، وإقامة العدل، والإحسان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق، والأمانة مَدْعاة للقبول والرضى والتفضل.

ما أريد الوصول إليه من خلال هذه التهويمات الإيمانية، تَذَكُّر رجلين كان لهما كل الفضل في المِسْحةِ الدينية السلفية التي تتمتع بها [المملكة العربية السعودية] هما:-

الشيخ- محمد بن عبدالوهاب رحمه الله والإمام- محمد بن سعود رحمه الله

ففي أعقاب ذلك اللقاء الميمون بين الرجلين في [الدرعية]، تَخَطَّت الجزيرة العربية إلى عتبات التاريخ، وتمكن أهلها من حفظ جناب التوحيد، وإظهار الدين، وقمع المعاصي. وهذه الخليقة قَلَّ من يلتفت إليها مُتَأمِّلاً، وهي فيما أرى من أهم منجزات [المحمدين] رحمهما الله. إذ لايَسْلم بلد إسلامي من شَوائب، تُعكِّر صفو التوحيد، أومن تقصير في جنب الله. وتلك الظواهر التي أصبحت جزءاً من النسق الثقافي، تَصَدَّى لها علماءُ في الديار الإسلامية عُدُّوا في التاريخ الحضاري من المُجَدِّدين الذين بشربهم من لاينطق عن الهوى.

وإذ تَصَدَّى [ابن عبدالوهاب] بقوة لكل هذه الظواهر، وحمل الناس على القبول بها، وتمثلها، أنشأ أول ما أنشاء هيئات للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، للحيلولة دون المجاهرة بالمخالفات، وتفشي البدع المعكرة لصفو التوحيد. حتى أصبحت تلك المؤسسة جُزْءاً من مؤسسات الدولة. على أن مهمات الهيئة تكليف عيني، لا كفائي، تمشياً مع حديث:- [من رأى منكم منكراً...]. وكنت أتمنى تسميتها بـ[هيئة الحسبة]، إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جماعية، لايَسْقط التكليف بها إلا لعجز.

و[ابن عبدالوهاب] الذي حورب داخلياً وخارجياً، لم يبتدع في الدين، ولم يتقول على الله، ولم تكن دعوته مصدر تشدد، أو تطرف، وإنما هي دعوة تجديد، وتصحيح، ورجوع بالجانب التعبدي إلى مذهب السلف الصالح.

والمصلح في النهاية ممن قُيِّضوا لنفي تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وأقوى دفاع عنه يتمثل بطبع كتبه، وجعلها في متناول يد الخصوم. لأن قراءة الشخص من خلال ماسطرته يمينه أقوى شاهد له أو عليه. فالوثائق ليست فيما كُتِبَ عنه، ولكنها فيما كَتَبَ هو، ومن شذ عن منهجه، وتسمى به، لاتتحمل الدعوة وزره، إذ لا بُدَّ في المواجهة من الرجوع إلى الأصول، والمنصفون من يفرقون بين: المبادئ، والتطبيقات، ذلك أن المنظمات الإرهابية تمارس فعلها باسم الإسلام، وهو منها براء.

وأذكر أنني كنت أحاضر في جامعة عربية، وفي أعقَابها أخذ أحد المداخلين على [المملكة العربية السعودية] تبنيها للدعوة الوهابية. وحين سألته عن أبرز انحرافاتها، راح يسوقها بحماس، وثقة، وروح عدائية. فقلت له:- لو كان ماتقول، قال به [ابن عبدالوهاب] لكنت أول الرافضين له، المتصدين لدعوته. فكل ماتقوله عنه مفتريات. وكل الذي أتمناه أن تقرأ مؤلفات المصلح، لتعرف أنه لم يأت بشيء من عنده.

لم يُصَدِّق ما أقول، ومن ثم عَلَّق موقفه، حتى يتمكن من الحصول على مؤلفات المصلح. بعد سنوات لقيت الرجل، فأبدى أسفه، واستياءه، مما يشاع عن المصلحين كافة، وعن [ابن عبدالوهاب] على وجه الخصوص، وحَمَّل علماء المملكة مسؤولية العجز عن تصحيح المفاهيم، وانشغال بعضهم بالمماحكات الفارغة، وبخاصة دعاة القنوات، الذين يتدخلون في شؤون الغير، ويَصُدِّرون رؤيتهم التي لاتمثل الرأي العام، ولا الرَّسْمي في البلاد، وهم بفعلهم هذا يُوْغِرُون الصدور، ويُكْثرون سواد الأعداء، ويُعْطون صورة سَيِّئة عن الدعوة الإصلاحية، وعن الآخذين بأحسنها. ويبدو لي أن [هيئة كبار العلماء] خير من يعطي الصورة السليمة عن الحركة الإصلاحية، ولا نزكي على الله أحداً، والحَيُّ لاتؤمن عليه الفتنة.

والأسوء من القنواتيين فلتات الألسن من بعض المنتمين لهذه الدعوة، وتَقَوُّلهم عليها، وتصور المناوئين أنها تمثل طائفة، أو حزباً، أو نشاطاً يختلف عما عليه عامة المسلمين. والحق أنها لاتمت إلى الحزبية، ولا إلى الطائفية بشيء. إنها دعوة إصلاحية مفتوحة، انطلقت من [نجد]، وعمت أرجاء الوطن، وامتد اثرها في آفاق المعمورة، ومهمتها الرئيسة تكريس السلفية التعبدية، مع احترام المذاهب الفقهية، وسائر علمائها. لقد عَرَفَتْ لعلماء الإسلام مكانتهم. ومايتلبس به بعض المنتسبين إليها من شدة، أو عنف، لاتتحمل الحركة جرائرهم.

ولا يعرف أثرها الطيب إلا المتجردون من الأهواء، ومن التعصب المذهبي. ولربما يختلف مع بعض رؤاها علماءٌ أجلاء، نقدر رؤيتهم، ونحترم اختلافهم، ونَعُدُّ مايذهبون إليه من باب الاختلاف المعتبر.

وفضل [المحمدين] على الجزيرة العربية لايقدره إلا من طاف الآفاق، وخبر الأنساق، واستكنه تقلبات الأوضاع. إنها دعوة مباركة، تترسم خُطَى السلف الصالح، وتؤكد على سد الذرائع، ودرء المفاسد. ومن أخطأ في تمثل هاتين القاعدتين، يتحمل بنفسه مسؤولية خطئه. فمبادئ الدعوة واضحة، وأسلوبها جلي، والمنصفون من العلماء لايمنحونها القدسية، ولايدعون لعلمائها العصمة. فكل عالم من علماء الدعوة يؤخذ من رأيه ويرد، وباب الإجتهاد مفتوح، ومن حاول إغلاقه، والاكتفاء بما سلف، فهو كمن يدعي [نهاية التاريخ]، ولن يضير علماء الدعوة مراجعة فتاواهم، والاستدراك عليهم. ومن ضاق عطنه من التابعين لها، فعليه لزوم بيته، وإفساح المجال لمن هو أهل للمنازلة، ومقارعة الحجة بالحجة، فالتاريخ لم ينته بعد، وسنظل مع الدعوة، وإن تفسحنا للمخالفين. وكيف نضيق بالمخالف، والرسول صلى الله عليه وسلم رَحُبَ صدره لمراجعة الصحابة، وتمنع البعض من الاستجابة، حتى باشر الفعل بتوجيهٍ من زوجته [أم سلمة] رضي الله عنها.

ولقد يستاء العاقل مما يعتري الأمة من تصدعات فكرية، منشؤها التعصب، وانعدام المصداقية، والمبالغة في التزكية، أو في القدح. ولو تداعى المختلفون إلى كلمة سواء، وروض العلماء والدعاة أنفسهم على التعايش، والتعاذر، وممارسة كل فئة لحقها في التصفية للنصوص، والتربية على القيم، والدعوة بالتي هي أَحْسَن، وتمكن العلماء من مواجهة بعضهم على قدم المساواة، وعلى ضوء تكافؤ الفرص، لو فعلوا ذلك لكان خيراً للأمة الإسلامية. فـ[أهل القبلة] أوسع من المذهبية، والطائفية، ومظلة هذا المصطلح تدرء عن الأمة فتنة التنازع الموهن للعزائم.

والحركة الإصلاحية المُحَارَبة من الداخل والخارج مشروعٌ دعوي، يأتي رائدها في سياق المجددين، الذين بشر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. واشكاليتها تغييب وثائقها، والتلقي من أنصارها، أومن خصومها الذين لايَصْدُقُون القول. فالأنصار يبالغون في الثناء والتزكية، والخصوم يوغلون في الذم والإفتراء، وبين هؤلاء، وأولئك تضيع الحقائق.

وفي النهاية لايسع المنصف إلا أن يقول بملء فمه:- [رحم الله المحمدين].

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب