Thursday 13/02/2014 Issue 15113 الخميس 13 ربيع الثاني 1435 العدد
13-02-2014

الفجوة بين الشريعة والقانون..

لفت نظري سؤال أحدهم «لمفتي» عن حكم نصوص الاتفاقيات التي تظهر عند محاولة إعداد الكثير من البرمجيات الهامة على جهاز الحاسب، يظهر لك في بداية عملية الإعداد، أو التجهيز وينص أحد بنودها على أنه عند حدوث خلاف بين المستخدم والشركة فإنه يتم الرجوع إلى محاكم الدولة التي تتبعها الشركة، وهي حسب قوله دول كافرة تحكمها القوانين الوضعية، وكانت الإجابة من فضيلته أن الأصل حرمة التوقيع على شرط يتضمن التحاكم للمحاكم الوضعية، برغم من أن هذه الاتفاقيات التجارية ليست لها مرجعية شرعية، ولم يرد فيها نص، لأنها لم تكن ممارسة في تلك الأزمنة، ولم يعرف المسلمون في تاريخهم أن عرفوا اقتصاديات الحقوق التجارية، وملكيات براءات الاختراع والاكتشافات.

تعتبر هذه الحادثة مدخلاً لتناول ما حدث من تطورات في أنظمة وقوانين المملكة خلال العقود الماضية، فقد صدر عدد لا حصر له من القوانين من قبل متخصصين، وقد تم الإشارة لها بالأنظمة، لكنها على رغم من كثرتها ما زالت معطلة في أغلبها، ويُختصر التحاكم إليها في لجان إدارية غير نافذة القرار في أغلب الأحيان، وهو ما يعيق تحقيق العدالة بسبب تلك الفجوة التي حدثت بسبب الفهم النصوصي والحرفي للشريعة الإسلامية، ونتيجة لغياب القياس وفقه الرأي الذي كان من أهم التطورات الفقهية في صدر الإسلام.

يرفع بعض الأصوليين شعارات أن نصوص الشريعة جاءت بمختلف الأحكام والتشريعات، وذلك في مجمله غير دقيق، ولكن يتم ترويجها من قبل بعض المتطرفين من أجل تحقيق أغراض سياسية قد تصل إلى حد التكفير للمخالف لهم في هذا الأمر، ومن أغراضهم أيضاً إقصاء المدنيين القانونيين من المشاركة في تطوير الأنظمة والعمل في المحاكم المتخصصة، ويدخل ذلك في باب الإقصاء، ويصب في مصلحة بعض الفئات المتطرفة التي تعتقد أن لهم دون الآخرين أحقية إصدار الأحكام ومن ثم احتكار الفهم الصحيح للنصوص، وفي ذلك التوجه تكمن الأغراض البشرية التي كثيراً ما تحاول السيطرة على المصالح والمنافع من خلال العباءة الدينية، وإن كنت أعتقد أن تلك المسألة ليس أمراً مسلماً به في الفقه الإسلامي.

فقد حفلت مدارس الفقه الإسلامي بمختلف الاتجاهات، وقد كان احتكار بعض رجال الدين أو المرجعيات الدينية بإصدار الأحكام نهج يخالف المذاهب السنية في الفقه أحياناً، الذي كانت أبوابه مفتوحة للجميع، فمدارس الفقه في تاريخ السنة المسلمين كانت شبه مستقلة، فقد كان هناك مدارس للرأي، وأخرى للحديث، وكانوا يختلفون في وضع الحلول للمسائل الشرعية، ولم يحدث إشكال بينهم، فقد كان أصحاب الرأي يعتقدون أن أحكام الشرع معقولة المعنى، تشتمل على مصالح ترجع إلى العباد، وعرف عنهم التشدد في قبول أخبار الآحاد، ولم يتهمهم أحد في دينهم أو عقيدتهم، وهو ما يعني أن صحة إعمال العقول المجتهدة في إصدار القوانين التي تنظم حياة الناس، والأخذ بها في محاكم القضاء.

يعتبر منهج الإمام أبوحنيفة في إطاره العام الحل لتلك الفجوة المفقودة في المعضلات التي يواجهها الفقه الإسلامي في هذا العصر، ولا يعني اشتهار أبي حنيفة بالقول بالرأي، والإكثار من القياس أنه كان لا يأخذ بالأحاديث، بل كان يشترط في قبولها شروطاً متشددة؛ مبالغة في التحري والضبط، وهذا التشدد في قبول الحديث هو ما حملهُ على التوسع في تفسير ما صح عنده منها، والإكثار من القياس عليها حتى يواجه النوازل والمشكلات المتجددة، ولم يقف اجتهاد أبي حنيفة عند المسائل التي تعرض عليه أو التي تحدث فقط، فقد كان -رحمه الله- يفترض المسائل التي لم تقع، ثم يدرسها على جميع وجوهها، ويستنبط لها أحكاماً خاصة بها، وهو ما يسمى بالفقه التقديري وهذا النوع من الفقه كان أبا حنيفة أول من استحدثه، وقد روي أنه وضع ستين ألف مسألة من هذا النوع..

كأن أبا حنيفة بذلك المنهج فتح الباب منذ ثلاثة عشر قرناً لإصدار الأنظمة والقوانين الإنسانية التي لا تخالف المقاصد الإسلامية، وتواكب التطور السريع في علوم الجرائم والجنايات، وقد قال أبوحنيفة: ((إنا لنستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع، عرفنا الدخول فيه والخروج منه))، وهو ما يعني أن لكل زمن حوادث ونوازل تختلف عن الأزمنة السابقة، ويستلزم ذلك إعمال العقل في إصدار القوانين التي تناسب تلك المرحلة، وتؤيد تلك الرؤية التطور الكبير الذي يحدث في عالم الجرائم والجنايات، الذي إذا لم يواكبه تطور قانوني، سنظل عاجزين أمام عبقرية العقل البشري في تطوير وسائله للالتواء خلف النصوص والأحكام الشفوية.

لعلي بهذا المقال أطالب بطريقة غير مباشرة بفتح الباب للمحاكم الشرعية في النظر في مخالفات الأنظمة، ومن ناحية أخرى التسريع في تأسيس المحاكم المتخصصة في التجارة وحقوق الإنسان وقوانين العمال وغيرها من شئون الناس، التي تواجه كثيراً من التعطيل والنظرة الدونية للأنظمة والقوانين التي صاغها بعض القانونين، ويتم الاحتكام إليها داخل غرف مغلقة، ولا تصل أحكامها إلى منزلة الحكم الشرعي، ويدخل في ذلك السماح للمؤهلين من المتخصصين في القانون بمختلف مشاربهم في العمل كقضاة في المحاكم المتخصصة تحديداً، والله من وراء القصد.

مقالات أخرى للكاتب