Friday 28/02/2014 Issue 15128 الجمعة 28 ربيع الثاني 1435 العدد
28-02-2014

آل كماشة

مع عالم التواصل الاجتماعي عبر التقنيات الحديثة، ومع وجود ذلك الكم الهائل من القنوات الفضائية والإنترنت وغيرهـــا من الوسائل، أصبح الناس اليوم أكثر قرباً للوصول إلى المعلومة، سواء كانت تتصل بالأشخاص أو المجتمع أو العلوم بشتى أنواعها، لكن ذلك التوفير الحميد جعل اللبس أكثر حضوراًَ نظراً لاختلاط الصدق بالكذب، والخطأ بالصواب، والبراءة بالخبث، وطيب المقصد بسوء المراد، وأصبح الإنسان مشتتاً إن جعل حصيلته فيما يلقى إليه، أما إن جعل من عقله دليلاً للوصول إلى الحقيقة فإنه قد يكون أكثر سلامة وأماناً.

وتنوعت تلك المواضيع التي يتناقلها الناس على نطاق أوسع من ذي قبل، فبعد أن كان الناس يتبادلون المعلومة الأعمق في أسواق مثل سوق عكاظ، أضحى الفضاء سوقاً عكاظياً كبيراً يتلقف كل شاردة وواردة من كل حدب وصوب، فاختلط الحابل والنابل، وضاعت الحقيقة في خضم ذلك الاتساع غير النهائي لهذا الفضاء الفسيح الذي تسبح فيه المعلومة السهلة القطاف من جميع المتلقين صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وعالمِهم وجاهلهم، وسريهم ووضيعهم، وطيبهم وخبيثهم.

ومن المحزن حقاً أن القاذف بهذه المعلومة في هذا الفضاء الفسيح ليس فئة بعينها يتوخى الناس فيها الخير، وإنما هي جميع الفئات يما تحمل من فوارق كبيرة في شتى المجالات، دون قيود قانونية، أو حتى أخلاق إنسانية.

الركب سائر لا محالة، ولم يعد أمام المرء في نفسه أو عند تربيته لأبنائه إلا الالتزام بتحكيم العقل لاقتطاف كل ما هو جميل ومفيد من هذا الخليط العجيب، وهذا أصعب حالاً من السابق الذي يعتمد فيه العامة في الغالب على الخاصة، أو خاصة الخاصة، لتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، ففي أمور الدين لا يسمع إلا من شيخ واحد أو اثنين أو أكثر قليلاً أو أقل، يفتونه بما قرؤوه في كتب من سبقهم، وسمعوه من شيوخهم، فلا يحيدون عنها، وكلما كان المرء أقرب لتطبيق ما في تلك الكتب كان أقرب للصواب في نظر ذلك المجتمع، وفي أمور الدنيا يتوارثون أنماط الزراعة والتجارة والغذاء والدواء، كابراً عن كابر لا سيما في المجتمعات العربية، فلا يحيدون عنها بإضافة طريق جديدة مبتكرة.

اليوم اختلف الحال، ومع اختلافه امتطى البعض مطية الخطأ جهلاً منهم بمكمن الصواب.. ومن ذلك ما يتعلق بصحتهم النفسية والجسدية، وأغرقوا أنفسهم في ذلك، فقد يتداول الناس معطيات وكأنها مسلّمات يؤمنون بها كحقيقة واقعة، حتى وإن جاء المتأخر زمانهم بما لم يأت به الأوائل.

ففيما يتعلق بالغذاء أضحى من المسلَّمات عند البعض أن أكل الثوم مفيد فائدة عظيمة، وأن أكله يحد من الأمراض ويشفي القلوب، ويزيل السقام، وإن كانت دراسات سابقة قد أشارات إلى فائدة مرجوة منه، فإن دراسات أخرى كثيرة فنّدت ذلك الزعم، وأظهرت أن فائدته محدودة جداً، وأنه مثل غيره من الأطعمة، ومع ذلك فإن الناس لا ينظرون إلى ذلك، ينفثون روائحهم الكريهة في المساجد، والمجالس، والمكاتب ظناً منهم أنهم قد أضافوا إلى صحتهم الشيء الكثير.. وهذا يذكّرني بأبيات من الشعر قالها الوزير السفير العالِم الأندلسي لسان الدين بن الخطيب في رجل يُقال له ابن كماشة، فيقول:

قيل لي ماتت فراشة

من بخار ابن كماشة

أحرزت أجر شهيد

ناله الطعن وناشه

رحمة الله ورضوان

على تلك الفراشة

فما أكثر آل كماشة في عصرنا الحاضر بسبب تلك المعلومة الخاطئة، التي يمكن تجاوزها بالبحث عن الصواب، وكذلك تغليب الأنجع على الناجع، إن كان في الثوم نجاع.

مقالات أخرى للكاتب