Monday 24/03/2014 Issue 15152 الأثنين 23 جمادى الأول 1435 العدد
24-03-2014

أنت تقرأ أكثر مما تتوقع!

تخيَّل لو أن قارئاً قبل بضعة مئات من السنين قال لصاحبه إنه لا يمكن التخلي عن الكتاب المخطوط من أجل الكتاب المطبوع بآلات جامدة، كلمات مرصوصة بخط مستقيم وحروف متشابهة لا طعم فيها، بينما المخطوط تشعر بروح الكلمات وانفعالاتها!.

لماذا نتخيّل، بل حدث من كان يحنُّ للفكر الشفاهي ضد الكتاب المخطوط.. فقد كانت قراءة الكتاب في أثينا بالقرن الخامس قبل الميلاد جديدة حتى إن أفلاطون عبَّر عن تشككه فيها.. ولطالما أكد سقراط (أبو الفلسفة) تفوق النقاش الشفوي، ولم يكتب أياً من حواراته وجدلياته الفلسفية، بل وصلت لنا من تلميذه أفلاطون الذي كتبها، ذاكراً أن الكتابة هي ركيزة وعكاز، وستؤدي إلى انهيار الذاكرة، وجعلها وسيلة مستسلمة لا تستطيع الدفاع عن حججها!

والآن، ثمة أصوات رومانسية تذم القراءة الإلكترونية وتتوجَّد على الكتاب المطبوع ذلك «المرافق الحميم الذي تلتقي في عمقه الكثير من الرموز: فنحن نضمه بأيدينا، نحضنه، نرنو إليه، يجذبنا أحياناً شكله وحجمه الصغير أكثر من محتواه.. إن هشاشته تخفي كثافة فاتنة..» ماري ليبير.

لكن مثلما اعتاد الناس الانتقال من الشفهي إلى الكتاب المخطوط ثم إلى المطبوع، فمن المتوقع أنهم سيعتادون على القراءة من خلال الشاشة الإلكترونية.. ومثلما تفوقت كل واحدة على التي قبلها، فإن القراءة الإلكترونية (الحاسوب، الجهاز الشخصي، الهاتف الجوال، اللوائح الإلكترونية..) ستتفوق بما توفره من امتيازات لا نجدها في الكتاب الورقي.

ليس هذا فحسب، بل إن التغير الحقيقي لم يأت بعد، لأننا ما زلنا نستخدم القراءة من خلال الشاشة.. إنما ما قد يصبح تغيراً جذرياً هو نهاية القراءة نفسها لتحل محلها الوسائل البصرية الناطقة المتحركة.. فحسب عالِم الأعصاب مارسيل جاست فإن القراءة هي ملكة صعبة تقنياً تتطلب سنوات من التعليم، أما دماغنا البصري فيتعود من دون أي جهد تقريباً على ألعاب الفيديو.

وباستخدام التصوير الدماغي، وجد جاست أن المخ يستقبل المدخلات الكتابية والبصرية بشكل مختلف على مستوى الفهم، لكن الوظائف الأعلى لمتابعة حبكة ما، وإدراك المفارقات، هي نفسها بغض النظر عن الكيفية التي يستقبل بها الدماغ الإشارات. يقول جاست إن «اختراع ثقافتنا للكتابة والقراءة ما هو إلا عارض.. إنه عمل يدوي ثقافي طورناه، لكنه ليس ضمن طبيعة البشر.. ولن نحتاج، بعد 200 عام إلى هذه الوسيلة لبث المعرفة»

(نيوزويك). حسب تقرير مجلة نيوزويك، يبدو أن المستقبل الذي تحركه الموجات العريضة الأكبر والقوة الكومبيوترية الأعظم سيؤدي إلى زيادة في الصورة المتحركة (صوت وصورة) على حساب الكلمة المكتوبة، فمن الصعب مثلاً تصور أن المراهقين يفضلون النص حين يتسلمون رسائل فيديو فورية.

هل أدى ذلك إلى خفض وقت القراءة؟.. لعلك تجزم بأن الناس أصبحت تقرأ أقل من السابق قبل الإنترنت. هذا صحيح لبعض أشكال القراءة لكن ليس لبعضها الآخر. الإنترنت خفّض من أوقات قراءة الصحف والمجلات، وكذلك وقت مشاهدة التلفزيون، لكن وقت قراءة الكتب لم ينخفض، وذلك وفقاً لدراسة كندية (إدارة التراث الكندي) عام 2005، حين تمت مقارنة نتائج دراسة مماثلة عام 1991. النتائج كانت مفاجئة. استخدام الإنترنت لم يؤثر على الوقت الذي يقضيه الناس في قراءة الكتب للمتعة بين الدراستين، رغم أن عدد الكتب المقروءة انخفض بنسبة 32%، كما انخفض وقت قراءة الصحف والمجلات ومشاهدة التلفزيون. انخفاض عدد الكتب قد يعني أن هناك نوعاً من الكتب (خصوصاً الصغيرة الحجم) أصبح الناس يجدونه في الإنترنت دون داعٍ لتكبد تكاليف شرائها.

إذا أضفنا إلى ذلك قراءة الناس عبر الإنترنت، فذلك يعني أن محصلة وقت القراءة (الإنترنتية والورقية) قد زاد عما كان عليه.. ببساطة معدل القراءة لدي غالبية الناس ارتفع، ولا داعي للنواح على نهاية زمن القراءة. ربما اقتربت نهاية زمن القراءة الورقية وتغير عادات القراءة.

هناك العديد من الدراسات الاجتماعية والتربوية والنفسية تولول على ضعف القراءة لدى الجيل الجديد وخطورة ذلك على مستقبلهم.. ووضعت خطط وبرامج لمقاومة تأثير الإنترنت وإغراءات وسائل الاتصال الإلكترونية البصرية.. لكن في الواقع أن القراءة زادت عبر الإنترنت، بينما قراءة الكتاب تقل تدريجياً على مستوى العالم. فحين يقضي الناس أوقاتاً طويلة أمام الإنترنت فهم في النهاية يقرؤون كميات ضخمة. هذا أدى إلى أن طريقة القراءة تغيرت مع انفجار المعلومات وتدفقها بانهمار لا يتوقف.

أصبحت القراءة سريعة وأقل تركيزاً ومختصرة على جزء من الموضوع وأكثر ميلاً لرؤوس الأقلام والصور والتعليقات السريعة والخبر الخاطف.. المعلومات أصبحت أكثر لدى القراء لكن التعمُّق صار أقل.. صرنا نغرق في سيل المعلومات التي يضخها الإنترنت، ونلتهي بمواقع التواصل الاجتماعي ونسيء استخدام الوقت مع زحمة الحياة وضغوطها في مرحلة اقتصاد المعرفة وما يتضمنه من التقشف في النوع والزيادة في الكم.

يبدو أن انقراض الكتاب أمرٌ حتمي في عصر يفضل المعلومات على المعرفة التي تتطلب التحليل والتأويل والرأي الشخصي للمؤلف.. هذا يفسر جزئياً الاهتمام المتصاعد للتحليل والمقال في مواقع الصحف بالإنترنت، لا سيما أن الأخبار والمعلومات صارت مشاعة بالإنترنت ولم تعد محتكرة.

وتتساءل نيوزويك، هل يعني ذلك أن الأجيال القادمة لن تكون قادرة على التركيز لما يكفي من الوقت لإنهاء رواية؟.. ربما.. لكن الوسائل البصرية التي تستخدم تكنولوجيات لا نعرفها حتى الآن قد ترتفع لتصل إلى مستوى الثقافة.. إن الصحة الفكرية الثقافية لأجيال المستقبل قد لا تعتمد على ما إذا كانت تقرأ الكتب فقط، بل على ما إذا كانت قادرة على التوصل إلى وسيلة أخرى جيدة.

هذا الكتاب المطبوع الخاضع للأوضاع التجارية وشروط الناشر وبطء التحديث بالمعلومات، هل يستطيع البقاء أمام تقنية تنوع الوسائط الإلكترونية والروابط المتعددة وظهور أشكال جديدة ورخيصة أو مجانية للقراءة مع تدفق مذهل للمعلومات المتجددة كل لحظة؟.. لقد كانت الثقافة شفاهية على مدى آلاف السنين، ثم جاء الكتاب المخطوط لأكثر من ألفي عام، ثم أتى الكتاب المطبوع لنحو خمسة قرون.. الآن تأتي القراءة الإلكترونية التي لم تتشكَّل بعد ومن المتوقع أن تكون أفضل من سابقتها لأن البشر سيجدون الطريقة المناسبة للتطوير كما فعلوا في الماضي.

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب