Monday 17/02/2014 Issue 15117 الأثنين 17 ربيع الثاني 1435 العدد
17-02-2014

عندما تحل الدراسات العلمية محل شيخ القرية!

كان يقال لنا حسب الدراسات العلمية إن القهوة والشاي مضران ينبغي التقليل منهما قدر الإمكان والأفضل تجنبهما.. صدَّقنا! صار يقال لنا أنهما مفيدان إذا أخذا دون إفراط.. صدَّقنا! ثم قيل لنا هناك شاي أخضر نافع وأسود مصنَّع خبيث وآخر عضوي حميد..

الدراسات العلمية حلت محل شيخ القرية الأمية القديمة يقول فيصدقون.. كلاهما الدراسات والشيخ يستندان على تصديق مسبق وقطعي. نعم، الدراسات العلمية هي مفتاح التقدم البشري لكن تفسير نتائجها يؤثر في المفتاح. هل تذكرون طائر اللقلق المضحك بأفلام الكرتون الذي يجلب الأطفال المواليد يحملهم بكيس قماش بمنقاره الضخم؟ هل تصدقون أن دراسة وجدت علاقة إحصائية وثيقة بين معدل مواليد البشر وعدد اللقالق بألمانيا من عام 1965 إلى 1987، كلاهما في انخفاض، وكان المنحنى الإحصائي بينهما متطابقاً تقريباً. فهل هذا يعني أن اللقلق يجلب المواليد كما تقول الخرافة الأوربية القديمة؟ كلا، طبعاً، فهي مجرد مصادفة بحتة (عن دوبلي).

لو افترضنا أنك باحث تقوم بدراسة علمية لأسباب حوادث السيارات داخل مدينتك المكتظة. ستجمع التقارير السنوية من إدارة المرور وتفرز أسباب الحوادث. لنفترض أنك حصلت على نتيجة أن أغلب الحوادث سببها السرعة.. ستوصي وأنت مرتاح الضمير بإعطاء السرعة أهمية مضاعفة على الأسباب الأخرى التي سترتب أهميتها حسب دراستك. لا ننس أن ذلك يتوافق مع الفكرة العامة المسبقة لهذا الموضوع.

لكن ماذا لو أن باحثاً آخر لديه خبرة داخلية في المرور أثبت أن نتائجك غير دقيقة، مظهراً أدلة بأسلوب علمي أيضاً (استبيانات واستشهادات) تؤكد بأن كثيراً من التقارير التي تذكر السرعة كسبب للحادث إنما هي إجراء روتيني غير دقيق يكتبه مقرر الحوادث على عجل أو لسبب التأمين أو لأي سبب آخر؟ وظهر أن النسب الحقيقية تغيرت كثيراً. ماذا لو أتى ثالث وطوَّر أسلوب البحث بمنهج علمي جديد يبحث عن المسبب الخفي غير الظاهري، مستنتجاً أن السرعة نتيجة أكثر من كونها سببا! وأوضح بأدلة إحصائية تؤكد أن أغلب حالات السرعة داخل المدينة تحصل بعد الاختناقات المرورية وأن الحالة النفسية للسائقين (المسبب الكامن) وتأخر الوقت (المسبب المربك) هما السبب الرئيسي للسرعة؟ ألم تظهر الدراسات النفسية أن الذي لديه حالة مستعجلة يرى الناس بطيئين والعكس صحيح؟

خذ مثالاً واقعياً من كتاب «الكلب الذي يبيض» لمؤلفيه البروفيسورين الألمانيين بورنهولد ودوبن: أظهرت دراسة بإحدى المدن أنه في كل حريق كلما زاد عدد الإطفائيين زاد ضرر الحريق. عُمدة المدينة فرض تجميد فوري للتوظيف وخفض ميزانية مكافحة الحرائق. يقول المؤلفان السبب ليس عدد الإطفائيين بل كلما زاد الحريق زاد عدد الإطفائيين والعكس ليس صحيحاً. مثال آخر أقل غباءً، وجد علماء الصحة «أن بقاء المرضى لفترة طويلة بالمستشفى يؤثر عكسياً على صحتهم. هذا له وقع الموسيقى على شركات التأمين الصحي، لكن اتضح أن المرضى الذين يغادرون المستشفى بسرعة هم أصح من الذين يجب بقاؤهم.» حسب ما رواه الخبير الاقتصادي رولف دوبلي في كتابه «فن التفكير بوضوح». ويذكر دوبلي: «نجد بالعناوين أن تحفيز الموظفين يؤدي إلى ارتفاع أرباح الشركات. هل هذا صحيح؟ ربما الموظفون يتحفزون أكثر عندما تربح شركاتهم..»

كثيراً ما نقع في فخ العلاقة السببية الظاهرة ولا ننتبه للسبب الخفي (الحالة النفسية في سرعة القيادة، الحالة الصحية في مغادرة المستشفى، الوضع المادي لموظفي الشركات الرابحة..)، فالارتباط الظاهري بين حالتين لا يعني بالضرورة أن بينهما علاقة سببية. هناك مبدأ في الفلسفة العلمية بأن «الارتباط لا يقتضي السببية». أحد الأمثلة ما اعتقده علماء البيئة سابقاً أن الطحالب السامة تقتل الأسماك في مصبات الأنهار، ولكن اتضح لاحقاً أن الطحالب نمت حيث مات السمك، فعُرف أن الطحالب لم تسبب موت السمك (Borsuk, et al. 2003).

صعوبة فرز العلاقة السببية بالعلوم التطبيقية نجدها أيضاً بالعلوم البحتة.. نموذج الذرة الذي جاءت به نظرية دالتون بأن الذرة أصغر الجسيمات وغير قابلة للتجزئة، والتي أثبتت نجاحها في وقتها كثورة علمية نهائية واستطاعت التنبؤ ببعض القوانين غير المكتشفة، أتى فاراداي وطورها.. ثم طومسون الذي وجد ما هو أصغر من الذرات واكتشف الإلكترون.. ثم رذرفورد الذي عمل ثورة على النموذج الذري وتجزئة الذرة وتوصل إلى النموذج النووي.. وأخيراً لدينا النموذج الحديث ونظرية الكم.. فظهر مقدار النسبية في العلم.

وقبل النسبية التي صاغها أنشتاين بطريقة علمية، طرحها نيتشه بطريقة فلسفية زاعماً أن الحقيقة العلمية هي ليست حقيقة مطلقة كما هي موجودة موضوعياً ومستقلة بحيادية بل كما تحددها السلطات الفكرية (منظرو المعرفة) أو السياسية (النخبة الحاكمة) في مرحلة من المراحل. هذا ما يولد إشكالية بين نجاح النظرية العلمية في مرحلة من المراحل وبين فقدها لموضوعيتها في مراحل لاحقة.. فنظرية أنشتاين النسبية كانت ثورة على قوانين نيوتن التي اعتبرت حقائق مطلقة في زمنها، ثم آتى الدور على نظريات أنشتاين وتعرضت للتعديل!

وفي هذه السنة نشر باحثون علميون بمجلة (nature) وهي الأهم علمياً على مستوى العالم، عشرين ملاحظة لتفسير الادعاءات العلمية بهدف توعية أصحاب القرار (السياسي والصحي والبيئي والتعليمي) لتحسين فهمهم لطبيعة العلم غير الكاملة وتحسين قدرتهم على استجواب مستشاريهم العلميين وفهم محدودية الأدلة العلمية، وأطلقوا عليها مهارة التفسير العلمي. واقترحوها أيضاً لأي شخص يتفاعل مع نتائج الدراسات العلمية خاصة الصحفيين. مما نشر أنه: «لا توجد قياسات دقيقة.. والانحياز أمر شائع في اختيار منهج البحث.. والافتراض مفيد بأن أحد الأنماط هو السبب لنمط آخر، لكن الارتباط قد يكون صدفة، أو نتيجة لحدوث كلا النمطين بسبب عامل ثالث، كمتغير مربك، أو كامن.»

هذا لا يعني أن نتائج الدراسات العلمية غير موثوقة، بل يعني أن لها نجاحاً عملياً مرحليا وصدق نسبي وليس حقيقة مطلقة لكل زمان ومكان. وليس الغرض هنا الشك الارتيابي المحبط بالعلم بل الشك الصحي المحفز لتطوير طرق التفكير وأدوات القياس ومناهج البحث، وعدم الركون للمعارف التي تعوَّد عليها المجتمع العلمي. فرغم أن الحقيقة هي ما يثبت أمام امتحان التجربة العلمية، إلا أن الطرق العلمية لتنفيذ التجربة تظل مسألة نسبية قابلة للتطوير..

alhebib@yahoo.com

مقالات أخرى للكاتب