Tuesday 01/04/2014 Issue 15160 الثلاثاء 01 جمادى الآخرة 1435 العدد
01-04-2014

سَاعَةٌ في مَجْمَعِ الخَالِدين..!

لم يكن لديَّ متسع من الوقت، لمتابعة فعاليات ملتقى (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة، حين قدمت إلى مصر، مساء العشرين من جمادى الأولى، للمشاركة في ملتقى عميد الرحالين، الذي أسهم في إحيائه، ورعايته تلميذ الأمس، وزميل اليوم. الدكتور محمد بن عبد الله المشوح، صاحب (منتدى

الثلوثية)، ونفذه (مركز الدراسات الشرقية) بـ(جامعة القاهرة).

وكيف تتأتى الأمنيات العذاب ؟. والرحلة محدودة، ومليئة بالفعاليات. غير أن إغراءات الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيع، عضو المجمع، والدعوة التي تلقيتها من رئيس المجمع، مكناني من حضور شطرٍ من حفل الافتتاح، برفقة الأخوين الدكتور عبد الله الوشمي، والدكتور إبراهيم التركي.

إذ خرجنا مبكرين للمطار، ظهر يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الأولى عام 1435هـ، بعد الانتهاء من فعاليات (الندوة الدولية لرحلات عميد رحالة العرب معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي) لِنمُرَّ بالمجمع على عجل. غير أن هذه الساعة أمدتنا بمعلومات ثرّة، ومكنتنا من الالتقاء بلفيف من عمالقة المجمع.

من أبرز مَنْ لقينا (عبد الهادي التازي)، و(أحمد مطلوب)، و(عمار الطالبي), و(محمد حسن الربيعي)، و(فاروق شوشه) أمين المجمع، و(محمد سليم العوا), و(كمال الدين أوغلو) الذي كان يشغل منصب الأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي، إضافة إلى رئيس المجمع (حسن محمود الشافعي) وآخرون لم نتعرف عليهم.

ولكل واحد من هؤلاء مجاله الذي بَزَّ فيه الأقران. فـ(التازي) السياسي والمؤرخ المغربي، الذي تجاوز التسعين من عمره، وسمي بعميد المجمعيين، يحتفظ بذاكرة حادة، وينصب اهتمامه على التاريخ المغاربي، وعلاقاته الدولية، وعلى اهتمامه بأدب الرحلة. فحين علم بندوة العلامة العبودي الذي ألف عن (ابن بطوطة)، تحدث طويلاً عن (ابن بطوطة) وعن اهتمام الغربيين به، حيث أطلقوا اسمه على أحد معالم سطح القمر، تخليداً لذكره. والتازي بهذا ينحي باللائمة على الأمة العربية، التي لا تهتم بعلمائها.

أما (أحمد مطلوب) فرائد من رواد المعجمة العربية المعاصرة، ورئيس المجمع العلمي العراقي، ونال جائزة الملك فيصل العالمية. وقد هُيئت لي فرصة الاطلاع على مجمل أعماله المعجمية، ودراستها. ولما أزل بصدد استقصائها. له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، ودون ذلك في التحقيق.

أما (عمار الطالبي) التراثي الفلسفي الجزائري، فقد عرفته من خلال تحقيقه لكتاب (العواصم من القواصم) في مجلدين، والذي لم يُطْبع كاملاً، ومحققاً إلا من خلال عمله المتميز. وله رؤية يُحْمد عليها، تتمثل بتأكيده على تأثر المغرب الإسلامي بفكر المشرق العربي، مشيراً بذلك إلى وحدة الأمة الفكرية. وهو متأثر إلى حد كبير بالمفكر الإسلامي (مالك بن نبي) بوصفه من مواطنيه.

أما بقية العمالقة فلم أكن قريباً من مكتبتي، لأسوق طرفاً من مُحَقِّقات العملقة عندهم, وغنيٌ عن التعريف الشاعر الكبير (فاروق شوشه) أمين المجمع.

ومما أدهشنا -ونحن في ضجة الاستقبال- تواضع رئيس المجمع، وبشاشته، وحسن استقباله لكافة الوفود، وبخاصة الوفد السعودي، الذي يضم في تلك الجلسة العضو الجديد في المجمع الزميل الصديق الدكتور (عائض الردادي)، والتراثي عبدالله عسيلان، ورئيس نادي الرياض الأدبي عبدالله الحيدري، والأستاذ سعد العتيبي.

ومما يشاع أنه أول أزهري يرأس المجمع، وأحسب أن (طه حسين) هو الآخر أزهري، وإن خلع جلبابه، وسخر بعلمائه.

كان حديث رئيس المجمع عن (جائزة الملك فيصل العالمية) التي مُنحت لمجمع اللغة العربية. وقد أشاد بتلك المكرمة في كلمته التي افتتح بها المؤتمر.

لقد جاءت هذه الساعة حُبلى بكل جميل، فالأعضاء المصريون، والأعضاء العرب، ولفيف من علماء اللغة، والأدب، والنقد، توافدوا على مصر من آفاق المعمورة، لحضور مؤتمر المجمع في دورته الثمانين، مشاركين، أو مدعوين.

من حسن الطالع أن بحوث المؤتمر تدور حول (التعريب) وأهميته، وحاجة العربية إليه، وتقصير الأمة العربية في الترجمة، والتعريب.

والتواصل بين اللغات، ونماؤها، يتم عبر ثلاث قنوات: الترجمة، والتعريب، والنقل. فَمِنْ أوفاها، وأَجْداها (قناة الترجمة)، ثم (التعريب)، وأضرها على اللغة (النقل)، ولكل من القناتين الأوليين ضوابطهما، ومحققاتهما.

لم أتمكن وزميلاي: الوشمي والتركي من حضور أيٍّ من الفعاليات، لخوفنا من زحمة الطريق، وفوات الرحلة، ولكنني استعرضت بعض الأوراق التي زُوِّدَ بها عضو المجمع، الأستاذ الدكتور محمد الربيع في غرفته في الفندق.

وكان بودي لو تمكن الأستاذ الدكتور (عبد الله بن صالح العثيمين) العضو المنتخب، من الحضور، إذ هُيِّئَت قاعة المجمع الكبرى لاستقباله، لكن العارض الصحي ربما حال دون ذلك -شفاه الله- وأعاده إلى مضامير اللزز التي صال وجال فيها بنجاح.

وكان بودي -أيضا- حضور بعض المحاضرات ذات العلاقة الوثيقة بالتعريب، كمحاضرتي الدكتور (محمود فهمي حجازي)، والمستشرق المشرقي (اليري كوستين).

أما محاضرة الأستاذ الدكتور (محمد بن عبدالرحمن الربيع) عضو المجمع عن (حركة الترجمة والتعريب في المملكة العربية السعودية) ففي متناول اليد، لأنه وأنا نعيش خلطة ثقافية، لا تنفك، إلا لتعود.

وأسفي أنني لم أتمكن من السفر معه ومع زملائه إلى (أسوان) مسقط رأس العقاد، لحضور الندوة العلمية عن الشاعر، والأديب، والمفكر (عباس محمود العقاد ت 1964م) بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته، فالعقاد العملاق يملؤني حباً وإعجاباً وإكبارا. وإن تعهد الربيع بإمدادي بشطر مما يدور في تلك الندوة.

أما محاضرة عضو المجمع معالي الأستاذ الدكتور (أحمد بن محمد الضبيب) في المجمع: (لماذا يرفضون التعريب؟) فإنني آمل الحصول عليها، إذ لم يحضر معاليه حفل الافتتاح، فمحاضرته لن تلقى إلا بعد أسبوع من بداية المؤتمر.

وعلى العموم فإن اللغة العربية بأمس الحاجة إلى (الترجمة) و(التعريب)، لتنميتها. وعندي كتاب مخطوط عن (تنمية اللغة) نشر منجماً قبل عقدين في (ملحق الأربعاء) بجريدة المدينة، على ما أذكر. وما أضر باللغة إلا(النقل). ولربما تكون الأمة العربية من أفقر دول العالم في الترجمة والتعريب.

ولهذا استبشرت المحافل العلمية، والفكرية، والأدبية بـ(جائزة الملك عبدالله بن عبد العزيز للترجمة)، إذ حفزت لفيفاً من المترجمين على مضاعفة الجهود، للظفر بهذه الجائزة، ذات القيمة المعنوية والمادية. ومن المثير للتساؤل غياب أمانة الجائزة عن مثل هذه الفعاليات، التي تقع في صميم مهماتها.

وأمنيتي تحويل (مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية) إلى مجمع لغوي يضاهي مجامع اللغة في مصر، والشام، والعراق، والأردن.

وكيف لا تتطلع النخب السعودية إلى هذه الأماني ؟. ودولتهم سباقة إلى مثل ذلك. بل هي داعمة لكل المحافل العلمية، والأدبية، والفكرية. والإبطاء في التنفيذ قد يفوت على البلاد فرصاً نادرة.

الذي أعرفه أن مشروع المجمع اللغوي في المملكة في مراحله الأخيرة، إذ نقحه (مجلس الشورى) ودفع به إلى المقام السامي، ولما يرى النور بعد، وإن كان (مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية) لا يقل نشاطاً، ولا أثراً عن سائر المجامع العربية.

في تلك الساعة الحُبْلى بكل مفيد بَدَأْتُ أستعيد تاريخ المجمع، وأتذكر رجالاته الراحلين. فمن يجهل عمالقة الفكر، والأدب في مصر، وسائر الدول العربية ؟.

وقفت أمام لوائح الشرف في ممرات المجمع، وقد عُرِضَتْ فيها الأسماء، والصور لرؤساء المجمع، ونوابهم، والأمناء، وسائر الأعضاء.

ومن بين أولئك شاهدت صورة العلامة (حمد الجاسر) رحمه الله بلباسه المتواضع، وهيئته المهيبة. وقلت في نفسي: لو أن هؤلاء على قيد الحياة، وأننا من حولهم، كما كنا الآن من حول كتبهم. لقد كانوا مهيبين، وهم تحت الثرى. ومكتبتي تحفل بقسط لا بأس به من كتبهم، وما كتب عنهم.

حتى لقد نيف حقل أحدهم على مأتي كتاب، أمثال (طه حسين)، وقد يكون ما سواه دون ذلك، كـ(أحمد حسن الزيات) و(أحمد لطفي السيد) و(إبراهيم مدكور) و(شوقي ضيف) وسائر الفلاسفة، والمفكرين، والأدباء، واللغويين.

إنه بحق (مجمع الخالدين)، ومن لطائف ما سمعت، أن أحدهم سُئل عن سبب تسميته بـ(مجمع الخالدين) فقال: إن العضو يُخَلَّد في العضوية، بحيث لا ينحيه إلا الموت. إلا أن هذه المقولة يجهضها أحد الخالدين (إبراهيم مدكور) الذي جمع تأبيناته لزملائه الذين سبقوه إلى الدار الآخرة في كتاب مطبوع، واصفاً إياهم بخلود الذكر، إذ تركوا من العلم الذي ينتفع به، ما يحيي ذكرهم، ويواصل عملهم.

المبنى الذي يحتله المجمع متواضع، والقاعة الكبرى دون المؤمل، وشارع (عزيز أباظه) الشاعر المسرحي الذي يقع عليه مبنى المجمع ضيق، لا تلتقي فيه سيارتان. لقد ظلم المجمع، وظلم الشاعر. وما أحوج هذه القلاع العلمية الخالدة إلى من يمد لها يد العون، لينتزعها من ضيق اللحود، إلى فضاءات تليق بها. والرابح من الدول الخليجية، ومن رجال الأعمال الموسرين من يسبق إلى هذه المكرمات الخالدة.

فهلا كانت لنا بصمات في الشارع المصري، تذكر فتشكر؟.

عيب إعلامنا المسموع، والمقروء، والمرئي تقصيره بحق وطن يعج بالفعاليات داخل البلاد وخارجها. ففي (مجمع اللغة العربية) بالقاهرة يُحتفى بعضو منتخب، ويرشح عضو مراسل، ويشترك في فعاليات دورته الثمانين عضوان سعوديان. وفي (جامعة القاهرة) تقام ندوة دولية عن رَحَّالةٍ سعودي، يُموِّلها مواطن سعودي، ويشترك في فعالياتها لفيف من الأدباء السعوديين، في أيام معدودة، ومعلومة. ومع هذا (لا حِسُّ، ولا خبرُ) إنه ظلم ذوي القربى:

(وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أشَدُّ مَضَاضَةً ** على المَرْءِ مِنَ وَقْعِ الحُسَامِ المُهنَّدِ).

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب