Tuesday 13/05/2014 Issue 15202 الثلاثاء 14 رجب 1435 العدد
13-05-2014

تقميشات من السيرة الذاتية..!

لم يكن من باب الصدفة، ولا من خليقة الفضول ملاحقة الإصدارات التراثية، والحديثة، الجديدة والمستعملة، والتنقيب عما لا يؤبه به من الكتب، مما لم تَرُقْ محتوياته لمشتريها.

كُتْبِيوُّ المستعملات، متفاوتون في وعْيِهم، وفي ثقافتهم، وفي جشعهم.

فمنهم الوراقون الناسلون من بطون الكتب، المدركون لأهميتها. وهؤلاء يبيعون النوادر بأغلى الأثمان، وبخاصة المطبوعات القديمة.

ومنهم العمال الذين لا يُفَرِّقون بين البعر والدر. وهؤلاء يُقَوِّمون مبيعاتهم المستعملة على الحجم، أو الجِدَّة. فكتاب لا يساوي مداده، يُغَالون في ثمنه، لمجرد أن صاحبه أعلفه تِبْناً وماءً بارداً، حتى بدت همالة حُرُوفُه بالتوافه.

قبل ثلاثة عقود، كتبت في هذه الجريدة عن جانب من ذكرياتي الممتعة عن [سور الأزبكية] في حي الأزهر بمصر، تحت عنوان [المجد المعتق لسور الأزبكية] وهو من الأسواق التي خَوَتْ على عروشها. وأصبحت أثراً بعد عين. وقد أقيم ليحول دون الراجلين وقطع الطريق. هذا السور يُظله [كُبْري] تعبر من فوقه السيارات. ولخلوه فقد استخدمه باعة الكتب المستعملة. وهي كتب موروثة من الوزن الثقيل -إذ ذاك-.

لهذا السور العتيد تاريخ حافل بجلائل الكتب. ومقالي آنف الذكر اسْتَدَرَّ ذاكرة الأستاذ الكبير [أحمد عبد الغفور عطار] رحمه الله، وحمله على سرد شيء من ذكرياته فيه، في [جريدة عكاظ] قبل أن أولد، كما يقول، في ثنائه عَلَيَّ، الذي لا أستحق أيسره.

ما أود الحديث عنه ظاهرة الباعة للكتب المستعملة، عندنا، وفي [شارع المتنبي] ومكتبات الباب الشرقي في بغداد و[سور الأزبكية] في مصر، وقرب الجامع الأموي بدمشق، وما يلاقيه أمثالي من صُدَفٍ نادرة، وأَصْدَافٍ ثمينة، بأسعار باهظة، أو مُيَسَّرة.

وظاهرة التخلص من الكتب ليست مذمومة على الإطلاق. فهواة القراءة، يقعون في خداع العناوين. والبعض منهم لا يتوفرون على مساكن فسيحة، فَيُخْلِي الضائق رفوف مكتبته مما لا يقع ضمن اهتمامه، والبعض منها تركة ورثها من لا يقيم لها وزناً.

ذات مساء ألممت بهذا النوع من المكتبات، فوجدت ما لا حصر له من المؤلفات المستعملة في مختلف فروع المعرفة. والمؤسف أن أكثرها من المقررات الجامعية، مما يشكل ظاهرة سيئة. فالطالب الجاد لا يمكن أن يفرط بهذا النوع من الكتب، لأنَّها وعاء تجاربه المعرفية، وذكرياته الطلابية. وبخاصة حين يعود إليها بعد أمة. ولا سيما الأمهات منها، ككتب النحو، والصرف، والبلاغة، والعلوم الشرعية، وأصولها، وموسوعات المعارف الأخرى، التي لا يجوز خلو المكتبات المنزلية منها.

والجهلة المفرطون من الطلاب من يطمسون وثائق الذكريات، ببيع هذه الكتب بثمن بخس، وبخاصة حين تمتلئ هوامش المتون منها بالتعليقات، والإحالات.

إن كتاباً واحداً من هذه الكتب يستدعي أساتذة أجلاء، وزملاء نجباء، وحكايات جميلة. ولكن هذا الصنف من الطلاب قوم لا يفقهون.

ليس مهماً لدَيَّ التفريط بهذه الكنوز، فكل إنسان على نفسه بصيرة، ولكنني أستغرب مثل هذا التصرف من طلاب يُفْتَرضُ فيهم الحرص على أوعية المعارف.

لقد نجوت بفضل الله من التفريط بهذا النوع من الكتب، ومن ثم احتفظت بمقررات مَرَّ عليها ستون عاماً، وذلك عندما كنت طالباً في [المعهد العلمي ببريدة]. وكلما فتحتها تذكرت طفولتي، وشبابي المبكر، وأساتذة رحلوا، وزملاء شاخوا، وآخرين اخترمتهم يد المنون. وكم تتسمر نظراتي على سَطْرٍ حَبَّرْته، أو سَطْرٍ مطبوع، وضَعْت تحته أكثر من خط، أو قولٍ نسفته، أو آخر عززته، أو حِكمة قَوَّسْت عليها. ولكل أثر حكاية، لها تداعياتها المفرحة، أو المترحة.

جيل النفط الملول المترف، ومع الأسف أنه جيلٌ يتنامى بسرعة، هذا الجيل يفرط بتلك الوثائق، وكأنها تشكل عبئا عليه، أو تُذكره بمرحلة عصيبة، هي مرحلة الطلب، مع أنها من أمتع المراحل، لمن عرف قيمة التحصيل المعرفي.

عندما أعْبُر ممرات القاعات في الجامعة أيام الامتحانات، تبدو لي أكداس المذكرات، ولأنَّ أصحابها تركوها، فقد وُكِّل بها عُمال النظافة، يجمعونها، ثم يلقون بها في حاوية النفايات.

تلك ظاهرة سيئة، لم تكن في زماننا، لأسباب عدة. لعل من أهمها: ما يتسم به ذلك الجيل من جِدٍّ، واجتهاد، وحرصٍ على التحصيل، والعطاء، من الطلاب، والأساتذة على حد سواء. إضافة إلى ندرة الكتب، ومكانتها في النفوس، وانحصار المعارف فيها. أما جيل النفط -ولا أعمم- فعينه ليست على العلم، بل على الوظيفة، وهي حاصلة بعد التخرج، دون النظر إلى مستوى مُخَرَّجات التعليم، وأهليتها، ثم إن لديه مصادر معرفية أخرى.

ذات يوم مَرَرْتُ بتلك الأكوام التي تَرْكُلها الأقدام، فوقعت عيني على مذكرة من عشر ورقات، تحت عنوان [تنمية اللغة] فراقَ لي هذا العنوان، ولم أتردد في استخلاص تلك المذكرة لنفسي، وبعد قراءتها، حَفّزتني على كتابة سلسلة مقالات حول تنمية اللغة، نشرتها في جريدة [البلاد] -على ما أذكر- وهي تشكل بمجموعها نواة كتاب.

الجميل في الأمر أنني دفعت بهذه المقالات بعد نشرها إلى مجموعة من طلابي في قسم [الليسانس]، وأغريتهم برفع درجات أعمال السنة، إِنْ هُمْ لاحظوا، أو أضافوا، أو صححوا. ومع تَخَوُّفهم، فقد غامر بعضهم، وأضاف، أو تساءل. وكان لذلك أثره فيما لحق.

الفضوليون، والجادون، يختلفون في مشروعية استثمار جهد الطلاب، وقد يَصِمون هذا النوع من الأساتذة بالسرقة، وأنا أختلف مع إطلاق الأحكام.

نعم، هناك أساتذة فارغون، يسطون على جهد طلابهم، وينشرونه بأسمائهم. وقد شكا إليَّ من أثق به من الزملاء سطو أستاذه على بحثه، ونشره باسمه، فنصحته بكظم غيظه، فحق الأستاذ حَقٌّ أبوي. والضعفاء المسترفدون من طلابهم، تتحول جهودهم إلى زبد يذهب جفاء، أو هشيم تذروه الرياح.

أما الجادون المتضلعون من المعارف، الحريصون على تدريب طلابهم، وترغيبهم في العلم، والتحصيل، المتدخلون فيما يمدهم به الطلاب، القادرون على المجيء بأحسن منه، لو أسعفهم الوقت، والجهد، فأؤلئك على حق، وعملهم مشروع، ومحمود.

من الأساتذة الكبار الذين اتهموا باستثمار جهود طلابهم الدكتور [شوقي ضيف] رحمه الله، لقد أدركت ذلك، وأبنته لطلابي، واستفتيتهم عن مشروعية هذا العمل، فاختلفوا فيما بينهم. كان ذلك عندما أسند إلي تدريس العصور الأدبية:- [الأموي، والعباسي، والمملوكي، والدول المتتابعة]، في سنوات خَلَتْ. وكان من أهم مراجعي كتاب [شوقي ضيف] الموضوعي [تاريخ الأدب العربي]، بمجلداته التسعة. وهو كتاب قيّم، فاق جميع من أرخوا للأدب العربي.

ومؤشرات استثماره لجهود الطلاب، تتضح من تباين مناهج التناول للظواهر الأدبية، وتباين المواقف، والأحكام، والإحالة إلى كتاب واحد من خلال ثلاث طبقات، وبخاصة [كتاب الأغاني] بوصفه من أهم المراجع لمؤرخي الأدب. فتاريخ الأدب لـ[شوقي ضيف] يحيل إلى [الأغاني] تارة في طبعة [دار صادر] وتارة أخرى إلى طبعة [دار المعارف] وثالثة إلى طبعة [دار الكتب]. ومن المستحيل أن يعود مُؤَلِّفٌ واحد إلى مرجع واحد في طبعات مختلفة. ومع هذا فأنا لا أعيب على [شوقي ضيف] هذا الصنيع، بل أحمده عليه. لقد زود المشهد الثقافي بموسوعة أدبية نادرة، سدت فراغًا، لم يقدر على سده من سبقه، ولا من لحق به.

ومن العلماء من يركن إلى فريق عمل، وينجز مشروعات علمية عملاقة، وليس مهماً أن يشير في المقدمة أو على الغلاف إلى من شاطره الجهد، أو لم يشر. المهم أنّه أنجز عملاً سد أمكنة لن يسدها الشامتون.

ولعلنا نذكر المشروع العلمي العملاق الذي قطع منه معالي الدكتور [عبدالله بن عبدالمحسن التركي] أشواطًا مثمرة، ربما كان من أهمها تحقيقه لمسند الإمام أحمد في خمسة وسبعين مجلداً، وكتاب [ابن كثير] التاريخي الموسوعي [البداية والنهاية] وأوسع كتاب في الفقه المقارن [المغني] لـ[ابن قدامه] في الفقه الحنبلي.

الشيء الجميل أن المذكرات التي أعْطيها لطلابي، هم الذين أنجزوها، وحرصاً مني على الأمانة العلمية، وضعت على غلاف كل مذكرة أسماء الطلاب الذين أسهموا في تجميع مادتها، وصياغتها. وهم اليوم أساتذة [أدِّ الدنيا] كما يقول إخواننا المصريون.

في الآونة الأخيرة كنت أوجه طلابي إلى المكتبات الرقمية، للتَّزود من المعارف، واستخلاص المطلوب منها. وأنا متأكد أن الفائدة منها وقفٌ على الجادين من الطلاب، وهم قليل.

لقد ضَمَّنْتُ كتابي [في الفكر والأدب] شطراً من ذكرياتي مع هذا اللون من المكتبات، ومع نوادر المخطوطات، وقَدْ أَسْتَلُّها، وأعيد صياغتها، لتكون شطراً من السيرة الذاتية.

Dr.howimalhassan@gmail.com

مقالات أخرى للكاتب