Friday 16/05/2014 Issue 15205 الجمعة 17 رجب 1435 العدد
16-05-2014

البصمات من علم الله

يقول الله سبحانه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن معلومات كثيرة أنها من علم الله الذي علّمه ربه وأدبه كما قالت عائشة لما سألته، من أدبك يا رسول الله؟ أي من علمك فقال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وفي سورة الضحى، وهي من صغار المفصل قال تعالى مبيناً امتنانه على رسوله:

بعد أن أقسم سبحانه-فهو يقسم بما يشاء من مخلوقاته جلّ وعلا:

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} إلى آخر السورة [الضحى، الجزء 30، مكيّة الآية 11].

فقد تناقلت وكالات الأنباء، وصدر في الصحف، ومنها الجزيرة بالرياض، وغيرهما ما بثته الوكالات، عن مصدر هو باكستان في يوم 12-4-2014م.

هذا الخبر عن طفل مَثُلَ أمام رئيس المحكمة في لاهور، حيث طلبه رئيس المحكمة الكبرى فاستجاب جده ليحمله على عاتقه وطعام الرضّـاعة في فمه، والقضية التي دُعي إليها للحضور، هي قضية شغب حصل في المنطقة التي تسكن فيها عائلة هذا الرضيع.

وتملكت الدّهشة على الحضور في القضية وهو جمهور كبير لأن القضية جنائية قُتل فيها رجل من رجال الأمن.. هذا الطفل الذي دُعي باعتباره مشاركاً في هذه القضية المخالفة للأمن، والقانون والمحاكم.. وعمّت الدهشة لغرابتها التي ضُجّ من أجلها: كيف يشارك هذا الرضيع فيها، مما دفع رئيس المحكمة الذي رصد الحادثة إلى إسقاط الأمر لاحتجاج الجمهور واستغرابهم الأمر، إذ كيف يشارك هذا الرضيع الذي لا يدري عن هذا الأمر، بل لعله اندهش من المحكمة وجمهورها الذي لم يعتمد على مثله فأزعجه، معبراً عن هذا بالبكاء.

وقد أحسن القاضي، الذي استجاب لسخرية الحادثة لإسقاط التهمة على هذا الرضيع في أي جريمة لأن العرف والقانون والشرع، لا يجـّرم في مثل هذا ومن الناحية الشرعية، وباكستان في المعهود عنها: أنها تحكم شرع الله في محاكمها، ومنها الجنائية والشغب.

ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الوارد في الصحاح ونصّه: (رُفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ والصغير حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق) وهذا الطفل ذو التاسعة من الشهور بعيد عن الحالات الثلاث التي توجب اتهامه بالمشاركة في قضية بمجتمعة، ولا ناقة له فيها ولا جمل: كما يقال في المثل، بل إنه فيما بدر من الصّورة، وهو على عاتق جَدّه، أجاب هذا الجمهور بالبكاء لاندهاشه من هذا الجمع ولفقدان الأم التي فقد حنانها في المحكمة وعبرّ عن ذلك بالبكاء، ممّا دفع رئيس المحكمة للاستجابة ولضغط الجمهور الحاضرين بين ساخر ومستغرب إلى إسقاط القضية وتبرئة هذا الطفل.

وليت الأمر قد انتهى عند هذا الحدّ، لتطوى القضية عن هذا الرضيع، إلا أن المسئولين في المحكمة طلبوا من جدّه التوقيع المعتاد لمن تبرئه المحكمة، وأخذ البصمات المعتادة.

فظهر هذا وهم يلزمونه بالبصمات، معبراً عن سخريته بهذا البكاء، والناس العاميين يقولون في أمثالهم عن مثل هذه: الطفل: بكْوُته تعبّر عن شَكْوَتِهِ.

وفي اعتقادي أن هذا الخبر بغرابته، لم يحصل في أيّ مكان، ولو اقتصر على معرفة الاسم فقط ولم يجرجر هذا الطفل: للمحكمة وأحضر فيها، ولم تؤخذ بصماته بالبراءة، لكان الأمر أهون والسمعة عن الخلل الجنائي، الذي يلحق الجهات المعنية بالنقص والخلل في التطبيق، وإن كان القاضي الذي قيل أنه اسقط القضية: لكن أخذ بصمات هذا الطفل لا مبرر لها، بل هو من الخلل الذي قيل عنه: أنه نادرة من النوادر لم تسبق إليها المحكمة في لاهور، ولن يلتفت إليها، وقد تعتبر غلطة كما قلنا، ولكن الصحيح ما علقت عليه صحيفة الجزيرة السعودية: بأن هذا كشف عن خلل في القانون الجنائي الذي يحتاج لإصلاح.

إذ لا يعقل أن طفلاً لم يبلغ السنة الأولى يجُرُّ للحاكم وتؤخذ بصماته، عن شغب حصل في المدينة، بل هو أمر مستحيل والمثل العربي يقول: وشرّ البلية ما يضحك.

وعن البصمات في الأمور الجنائية.. التي جرّتني إلى الالتزام بالحديث عن البصمة أو البصمات، حيث سبق القرآن الكريم إليها، مما سأجعله حديثاً مستقلاً إن شاء الله.

وعن القضية التي حركتني للحديث عن البصمات أو البصمة فقد أخبر الله سبحانه عن ذلك في القرآن الكريم، قبل أن تعرفها الأمم على وجه الأرض، وعن المسلمين أخبر جل وعلا، قبل 14 قرناً وقبل أن يعرفها الإنسان على وجه الأرض، فيكون الإسلام أوّل من سبق إلى البصمة.

وقد حركني هذا الوضع، إلى الحديث عن البصمة التي هي من أسرار ما أودع الله سبحانه من الغرائب والعجائب لمن يتفهّم القرآن، ويتدبر الأحكام والأمور في خصوصيات القرآن، كما قال: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في صفة القرآن الكريم من عجائب وغرائب وإعجاز.

يقول سبحانه وبحمده: في محكم التنزيل في سورة القيامة، قبل أن يعرف الإنسان عن الشواهد الإثباتية، في الجريمة ودلالة الاستدلال، عن الجرائم المختلفة ومرتكبيها، في سورة القيامة التي هي من السور المكية، عن الشواهد الإثباتية في الجريمة والتوثيق المطلوب في التعامل بين البشر، في قضاياهم المختلفة هذا من جانب.

ومن الجانب الآخر للرد على المشركين، في شبهاتهم لأن الله قد أخبر في موضع آخر، جل وعلا، من التنزيل الحكيم: (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون).

وفي موضعنا عن البصمة قال جل وعلا: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} وفي مكان آخر يقول سبحانه في القرآن الكريم: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} الآية 4، سورة القيامة، وقبلها الآية رقم (3) في الردّ على المشركين عن العظام في قوله بعدما اختلطت بالتراب فقال سبحانه في آية أعجزت المشركين وأهل الشبهات كلهم في أي عصر ومصر، وبعجزة خالدة إلى الأبد عندما قال المشركون الأولون والآخرون:

{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ} فأعجزهم حقيقة ما قال الله-بلى قادرين على أن نسوي بنانه. (الآيتان من سورة القيامة وهي مكية، أي قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة).

وقد توسع المفسرون في هاتين الآيتين، ومهما أطالوا فلن يصلوا إلى حقيقة الدلالة المقصودة من النتائج إذ كلما قالوا عن أمر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، تفتح أمامهم شيء آخر عرفه من بعدهم حسبما يمرّ، وهذا من عالمية علم الله في القرآن الكريم، الذي لا تنتهي عجائبه ولا يخلق من كثرة التمعّن، كما قال الإمام علي رضي الله عنه.

mshuwaier@hotmail.com

مقالات أخرى للكاتب